تتعدى المسألة الإطار النظري ومجرد الإضاءة على واقع معين. مخاطر التقارير وخاصة إذا كان صادرة عن مؤسسات عالمية لها صدقية كبيرة أنها تعتمد في الكثير من الأحيان من قبل رجال الأعمال والمستثمرين والشركات الكبرى وحتى السياح كبوصلة تحدد أي إتجاه يفترض أن تسلكه أموالهم وحقائبهم. قد تتضارب التقارير والمعطيات بين شركة وأخرى في بعض الأوقات- أو في معظمها كما هو الحال مع شركات الإحصاءات في لبنان- لكن حين تجمع على تردي الوضع في لبنان وفي مختلف القطاعات فلا شك أنها ستمثل ضربة قاصمة لأي مسعى يسعى الى جذب المستثمرين.

بيروت... وانعدام الأمان

صدر يوم أمس تقرير جودة المعيشة من قبل مؤسسة ميرسر العالمية. يغطي التقرير 230 مدينة من حول العالم، ويتسم بالدقة والشمولية كونه يأخذ في عين الإعتبار عوامل ومعايير عديدة أبرزها البيئة السياسية والاجتماعية، واعتبارات الرعاية الطبية والصحية في المدينة، والخدمات العامة، ومرافق الترفيه والبيئة الطبيعية إضافة الى معطيات أخرى مهمة.
«البيئات المضطربة» قد تكون جاذبة للإستثمارات أكثر من البيئات المستقرة

أهمية التقرير تكمن في أنه موجه أساساً الى الشركات المتعددة الجنسيات بهدف مساعدتها على تحديد الراتب والتعويض المناسبين لموظفيها عند إرسالهم في مهمات عمل خارجية، حيث أنه كلما ارتفعت المخاطر الأمنية على سبيل المثال في مدينة معينة، وجب على الشركة دفع علاوة مصاعب لموظفيها ورفع رواتبهم لتشجيعهم على الإنتقال إليها في مهمات خارجية.
معيار الأمان الشخصي يعد من أبرز المعايير التي تحدد جودة الحياة في التقرير. وبناء عليه فقد حلت بيروت في المرتبة 180 عالمياً من حيث جودة المعيشة والمرتبة 14 من أصل 22 مدينة عربية شملها الاستطلاع متفوقة على كل من الجزائر، جيبوتي، طرابلس الغرب، نواكشوط، دمشق، الخرطوم، صنعاء، وبغداد التي حلت في المرتبة الأخيرة عالمياً.
مأساة "أم الدنيا" لا تنتهي هنا. وكأنه لا يكفيها اعتبارها بطريقة دبلوماسية وعلمية غير صالحة للمعيشة حتى يأتي معيار الأمان الشخصي ليقضي على أي أمل بالحياة لبيروت.
على المستوى العالمي ومن اصل 230 مدينة كما سبق ان ذكرنا حلّت بيروت في المرتبة 213. عربياً تسبق بيروت كلا من القاهرة، طرابلس الغرب، الخرطوم، صنعاء، دمشق، وبغداد التي احتلت المركز الأخير عالمياً. تخيلوا أن صنعاء، في اليمن الذي يعيش أهوال الحرب والدمار منذ أشهر لا تبعد عن بيروت إلا 15 مركزاً، في المرتبة 228 عالمياً!!!

المستثمرون و"البيئات الهشة"

يصعب تحديد "سلوك مثالي" للمستثمرين الأجانب، وبالتالي وضع إطار عام لمحركات تفكيرهم ودوافعهم الإستثمارية وكيفية نظرهم الى "البيئات" المثلى للإستثمار. ففيما بعض المعطيات الثابتة يمكن أخذها دوماً في عين الإعتبار لمحاولة فهم تصرفات أي مستثمر مثل المخاطر السياسية والإقتصادية والأمنية في بلد أو مدينة ما، إضافة الى الخبرة الشخصية والحكمة المكتسبة مع الزمن، فإن "التفكير من خارج التقليد" وحب المغامرة والتحدي قد تكون دوافع أساسية تنشط أدرينالين بعض المستثمرين وتشجعهم على الإستثمار في بلدان ومدن ومناطق قد يكون الإستثمار فيها ضرباً من الجنون في الحالات التقليدية.
دراسة لجامعة هارفرد أعدها الباحثان ألبرتو أبادي وخافيير غارديازابال بعنوان "الإرهاب والإقتصاد العالمي" كانت قد تطرقت الى مدى تأثير الإرهاب على تدفق الإستثمارات الأجنبية المباشرة. تشير الدراسة التي شملت 186 بلداً، الى أنه كلما زادت مخاطر حصول عمليات إرهابية، انخفضت الإستثمارات الأجنبية المباشرة بما يقارب 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
قام الباحثان بدراسة حالة منطقة الباسك في اسبانيا، التي شهدت لفترات طويلة أعمال عنف بين الإنفصاليين والقوات الحكومية. كشف البحث أن الصراع أدى الى وجود فجوة 10% بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إقليم الباسك ومنطقة مماثلة لم تشهد اي اضطرابات في إسبانيا طيلة عقدين من الزمن.
اللافت في البحث أنه ومع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 1998-1999 فإن أسهم منطقة الباسك تخطت اسهم بقيت المناطق الإسبانية.
لكن من جهة أخرى، فإن دراسات أخرى تبين أن "البيئات المضطربة والهشة" قد تكون جاذبة للإستثمارات لا بل أنها قد تتخطى البيئات المستقرة. فعلى سبيل المثال أظهرت دراسة للبنك الدولي عام 2014 أنه وخلال ثماني سنوات في الفترة الممتدة ما بين عامي 2005 و 2012 نمت الإستثمارات الأجنبية المباشرة في "البيئات الهشة والمضطربة" بشكل أسرع بثلاث مرات مقارنة ببقية مناطق العالم.
الإستثمار في "بيئات خطرة" ليس لكل المستثمرين بل لفئات معينة. أبرز المستثمرين الذين قد يستثمرون في بيئات تحمل مخاطر معينة هم إما المستثمرون الذين ينتمون الى المحيط الجغرافي للدولة "الهشة" والذين يكونون على تماس مع ثقافة الدولة وشعبها ويملكون علاقات إجتماعية وإقتصادية مع بعض النافذين في هذه الدولة، أو "المغتربون" الراغبون بالاستثمار في الوطن الأم والمستعدون لتحمل المخاطر، أو بعض الجشعين الذين يجيدون إستغلال الأوضاع السلبية للإستفادة من مشاريع وتنازلات من قبل الحكومات ما كانوا ليحصلوا عليها في الأوقات الطبيعية وأخيراً الشركات المملوكة من الدولة التي قد لا يكون هدفها الأساسي تحقيق الأرباح بل المساهمة في تعميم منتجات الدولة المصنعة وتحضير الارضية لتوسع إقتصادي لاحق في الدولة "الهشة".
واقع لبنان السياسي والأمني والجغرافي فرض عليه التعايش مع "هشاشة" على جميع الأصعدة ساهمت في الحد بشكل كبير من الإستثمارات التي كان يمكن أن يستفيد منها في أوقات الإستقرار، لكن وكما ظهر فإن الإستثمار قد لا يكون "منطقياً" في الكثير من الأحيان، وحتى البيئات المضطربة قد تكون جذابة للمستثمرين. وبما ان وضع لبنان "غير طبيعي" يكون المنطقي البحث عن المستثمرين "غير الطبيعيين" و"غير التقليديين" المستعدين للإستثمار في مصائبنا!!