مرّ أكثر من عام على بدء تراجع القطاع العقاري الذي كان ـــ خلال الفترة الممتدة بين أواخر 2007 و2011 ــــ قاطرة اساسية للاقتصاد اللبناني. آنذاك، شكّل هذا القطاع عنصر جذب للأموال والمستثمرين، ما تسبّب بفوضى عارمة في السوق العقارية أدت الى زيادة الاسعار بشكل غير منطقي في أحيان كثيرة.في عامي 2013 و2014، تسبّبت الاوضاع الاقتصادية المتردية بتجميد حركة هذا القطاع، فتراجعت أرباحه بشكل لافت. اليوم، تسود نظرتان الى السوق العقارية: الاولى تشير الى أن القطاع لم يتأثر بالوضع الاقتصادي العام، لا سيما مع استمرار التسليفات والقروض المصرفية، أما الثانية فتؤكد أن الأمر بات في خانة التراجع الحاد الذي ينذر بانهيار قد يكون شبيهاً بذلك الذي شهدته الولايات المتحدة عام 2008 ومن بعدها اسبانيا وقبرص ودبي...
عام 2015، تباطأ الطلب في القطاع العقاري بشكل ملحوظ، ما دفع بمصرف لبنان الى اصدار تعميم يقضي بدعم السوق العقارية من خلال اعطاء قروض مدعومة. ولا شك في ان السياسة التي اتبعها المصرف المركزي، والمتعلقة بالتسليفات والقروض، ساعدت في الحفاظ على السوق العقارية وجنّبتها مواجهة أزمة كانت لتكون أكبر بكثير. لكن التخوف من انهيار هذا القطاع لا يزال حاضراً، خصوصاً في ظل ما يُحكى عن قيام المصارف بنقل المخاطر من المستثمرين العقاريين الى الافراد من خلال التسهيلات والتحفيزات التي تقدمها للأفراد لشراء الشقق السكنية. وبالتالي التخوف من عدم تسديد تسليفات الرهن العقاري الممنوحة لمدينين لا يتمتعون بقدرة كافية على السداد.
من هنا سارع مصرف لبنان الى اعتماد سياسة "التسنيد" لتدارك الازمة قبل فوات الاوان، عبر إنشاء صناديق عقارية يمكن للمصارف او المؤسسات المالية تأسيسها بغية شراء عقارات كي لا يشكل القطاع العقاري تهديداً للقطاع المصرفي.
منذ عام 2008، كان الطلب على العقارات يفوق العرض إلى حد ما، هذا الامر أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار العقارات قارب العشرة أضعاف في بعض المناطق بحسب عدد من الخبراء.
وقد ساهمت الاموال الاغترابية في فورة هذا القطاع، اضافة الى ارتفاع اسعار النفط التي بلغت ذروتها آنذاك، وما رافقها من ارتفاع في كلفة المواد الاولية المستخدمة في البناء. أواخر عام 2011، بدأ المستثمرون العقاريون يشكون من تباطؤ في وتيرة الطلب بعدما كانت قد وصلت الى حدّ الجنون؛ اما اليوم فلم يعد الاستثمار في مجال العقارات، لا سيما المبني منها، ملاذاً آمناً بالنسبة الى كثيرين، خصوصاً ان الاسعار بدأت تتراجع بوتيرة متسارعة بلغت نحو 25% بحسب تقديرات عدد من المتابعين.
سبق وشهدت اسعار الشقق السكنية انخفاضاً في منتصف تسعينيات القرن الماضي


لا انخفاض حاداً

ينفي الخبير العقاري والمدير العام لشركة "رامكو" العقارية رجا مكارم أي انخفاض في الاسعار بالنسب التي يتم الحديث عنها، ويوضح أن "الجمود السائد في القطاع العقاري يعود الى الوضع الاقتصادي العام، لذلك هناك قلق وخوف من الاستثمار في هذا القطاع. عدا عن ذلك، أثرت الاضطرابات الاقليمية في مداخيل اللبنانيين المغتربين في المحيط العربي وأفريقيا، فباتوا يفضلون الاحتفاظ بأموالهم نقداً بدلاً من استثمارها وتوظيفها". ويوضح: "ليس هناك انخفاض حاد في اسعار الشقق، ولكن ما يعاني منه القطاع هو كثرة العرض وانخفاض الطلب واحتدام المنافسة بين من شيّدوا الابنية منذ فترة عندما كانت اسعار المواد الاولية للبناء مرتفعة والذين يشيدون ابنية اليوم بأسعار أرخص نظراً لانخفاض كلفة البناء".

ندرة الأراضي؟

يزعم بعض المستثمرين العقاريين أن المساحات الصالحة للبناء باتت نادرة، وهذا ما يجعل أسعار العقارات غير المبنية الباقية مرتفعة، خصوصاً في مناطق كبيروت وبعبدا والمتن وكسروان.
غير أن المهندس المعماري رهيف فياض يؤكد: "أن لجوء المستثمرين العقاريين الى رفع اسعار الشقق السكنية بشكل عشوائي مبررين السبب بندرة الاراضي أمر غير صحيح لأن ما يحصل عملياً هو هدم المباني القديمة وتشييد ابنية جديدة مكانها. وبالتالي اذا أحصينا عدد المباني القديمة المرشحة ان تزول تصبح الندرة كلاماً فارغاً. الى ذلك فان الاراضي في لبنان ليست مصنفة، لذلك كل الاراضي تعتبر صالحة للبناء".

أزمة التسعينات


بحسب عدد من المتخصصين، ليست هذه المرة الاولى التي يعاني فيها القطاع العقاري اللبناني من أزمة ومن تراجع أسعار.
فقد سبق وشهدت اسعار الشقق السكنية انخفاضاً لامس 30% في منتصف تسعينيات القرن الماضي. عن هذا الموضوع يشير وزير المال الاسبق الدكتور جورج قرم الى "ان للأزمة العقارية آنذاك سببين، الاول هو موجة التفاؤل التي رافقت فترة ما عرف باعادة اعمار لبنان بعد اتفاق الطائف عام 1990 والذي اطلق الشرارة الاولى للفورة العقارية. لكنها لم تدم طويلاً، إذ ما لبث المغتربون ان عادوا وباعوا العقارات التي تهافتوا على شرائها، اضافة الى زيادة نسبة الهجرة. اما السبب الثاني فيعود الى رفع الفوائد المصرفية بنسب كبيرة وصلت الى 35% فبات المستثمرون يفضلون الحصول على فوائد ودائعهم المصرفية بدل الاستثمار في العقارات".

نهاية الهيستيريا

المتخصص في الشؤون العقارية المحامي زياد جاموس يعتبر "انه في عام 2009، دخل إلى لبنان حوالى 15 مليار دولار لانعدام الثقة بالمصارف الخارجية بسبب تداعيات الأزمة المالية ــــ الدولية. ومع تدني نسبة العرض مقابل هذا الطلب الهائل كان من الطبيعي أن يشهد القطاع العقاري اللبناني فورة ونموا، الا أن هذه الطفرة وصلت الى حدود الهستيريا. اليوم عامل جديد يؤثر على الساحة العقارية وهو استمرار انخفاض أسعار النفط العالمية الذي سيؤثر حكماً على الطلب العقاري الذي تراجع حوالى 20%، ومن المتوقع ان يتراجع أكثر بين عامي 2016 و2017 بما ان النتائج المترتبة جراء انخفاض سعر البترول تظهر بعد حوالى سنتين".
ويضيف جاموس: "لا بدّ أن تشهد السوق انخفاضاً حاداً في الاسعار خصوصاً ان رفع الاسعار جاء نتيجة التذرع بغلاء الحديد ومواد البناء. اما اليوم فقد انخفض سعر طن الحديد من 1200 دولار الى 300 دولار اي بنسبة 45%".
سنوات الفورة العقارية حققت للمستثمرين العقاريين عائدات بنسب تجاوزت 50% من الاكلاف. كلّ من استثمر في العقار اللبناني في الماضي حقق أرباحاً فاقت المخاطر المعتمدة، لذا مهما بلغت نسبة التراجع، تبقى السوق محافظة على هامش لربحية كانت في احيان كثيرة على حساب ذوي الطبقة المتوسطة وما دونها. التخفيض المناسب في الأسعار يحرّك السوق، ويسمح بتحقيق أرباح معقولة للمستثمرين، وفي الوقت عينه يقع ضمن القدرة الشرائية لعدد أكبر من اللبنانيين. فهل يسدّ المستثمرون شراهتهم قبل ان يصلوا الى حد التدمير الذاتي؟