قد تكون تجربة «كورونا» من أكثر الأحداث التي تركت أثراً وصدمة في حياة معظمنا منذ عقود. وممّا لاشك فيه، أنّ آثار الوباء سترافقنا مثلما رافقتنا آثار حدث كهجمات 11 أيلول، مثلاً، والتي نلحظها كلّما تواجدنا في المطار حتى يومنا هذا. فما بالكم بوباء عالمي، لا يزال مستمراً بعد هذه الفترة الطويلة تاركاً آثاراً في حياتنا اليومية من غير الممكن تجاهلها؟ وفيما ننتظر انتهاء هذه الفترة الصعبة وعودة الحياة إلى طبيعتها، أصبح من المعروف أنّ بعض جوانب حياتنا قد اكتسبت بسبب الوباء «طبيعة جديدة»، ومن ضمنها عالم العمل.
1- مرونة الشركات
تأقلم الناس بسرعة مع العمل من المنزل. وحين يزول الوباء، سيظلّ العمل من المنزل منتشراً بين المهنيين. وسيجبر هذا الشركات، ومن بينها تلك التي لم تؤيّد العمل من المنزل، على أن تصبح أكثر مرونة. فبعد أن اختبر معظم الناس هذه الطريقة في العمل وأثبتوا حسن إنتاجيتهم، سيكون من الصعب على الشركات أن تحرمهم منها. وأظهرت دراسة أجرتها مؤسسة «غالوب» أنّ 54% من العاملين الأميركيين هم على استعداد لترك وظيفتهم الحالية إذا عُرضت عليهم وظيفة يتمكّنون خلالها من العمل عن بعد. ولن نشهد في الوقت الحالي انتقالاً جذرياً إلى العمل عن بعد، بل سيكون شعار المرحلة القادمة «المرونة». فالعاملون سيُمنحون حرّية أوسع لاختيار العمل عن بعد، لا سيّما أنّ بعض العاملين أبدوا رغبتهم في العمل من مكاتبهم.

2- تغيّرات في مكان العمل
سوف تشهد مكاتب العمل تغيّرات في الشكل وطريقة العمل، وكما هو الحال في معظم الأحيان، لن تُستبدل هذه المكاتب تماماً، كما لم يستبدل تطبيق «لينكدإن» مثلاً السيرة الذاتية. فأكّد الرئيس التنفيذي لشركة «آبل» تيم كوك، أنّ العاملين يخضعون حالياً لمعايير الوقاية المتمثلة بقياس الحرارة والتباعد الاجتماعي لفترة محددة. وبعد أن تخفّ حدة الوباء، إن بفضل اللقاح أو اكتشاف علاج ما، ستصبح المكاتب عبارة عن مساحة للتعاون والتفاعل الاجتماعي بدلاً من مجرّد تركيزها على العمل الفردي المنعزل. وستأخذ قاعات الاجتماعات والأماكن الواسعة الحيّز الأوسع من مكان العمل. فسيصبح هذا الأخير بيئة للتفاعل الاجتماعي بدلاً من سيناريو «حبس الذات في المكتب». ويهدف التصميم الجديد إلى زيادة التفاعل والاستفادة من تجمّع المواهب في مكان واحد. ويضيف: «إنّ إنسانيتنا وتفاعلنا هما ما يميّزاننا عن الروبوتات. ولن يحلّ شيء مكان هذا التفاعل الذي غالباً ما ينتج عنه الابداع والابتكار. وقد جعلنا الوباء نقدّر هذا التفاعل أكثر من أي وقت مضى».

3- ظهور المنازل المجهّزة للعمل
لم يشكّل العمل من المنزل تحدّياً لبعض المهنيين لمجرّد أنهم معزولون عن غيرهم، بل لأنهم لم يجدوا في الواقع داخل منازلهم المساحة الملائمة أو المكاتب المخصصة للعمل. فهم لم يجدوا مثلاً البقعة المناسبة لإجراء المقابلات على «زوم». وأفادت دراسة أجراها موقع «غات آب» أنّ معظم العاملين كانوا يشتكون من نقص في المعدات التكنولوجية الضرورية للعمل عن بعد ما أعاق إنتاجيتهم وعملهم. ومن أكبر التحدّيات التي واجهها العاملون عن بعد هي ضعف جودة الإنترنت. وأظهرت نتائج دراسة أجرتها «ويسل أوت»، وهي شركة تقدّم معلومات عن خدمات الهواتف النقالة والإنترنت، وشملت عدداً من البالغين الذين انتقلوا إلى العمل من المنزل، أنّ ضعف الإنترنت حال دون قيام 35% منهم بعملهم بالطريقة المناسبة، وأنّ 43% لجأوا إلى استخدام خدمة الإنترنت على الهاتف.

سيتمّ بالتالي تحسين جودة الإنترنت بسرعة وبشكل كبير. وأصبح إنشاء المكاتب في المنازل أولوية لدى عدد كبير من الموظفين. ففي المنازل التي تبنى حديثاً أو التي يعاد تصميمها، أصبح تجهيز مساحة ملائمة للعمل من المنزل أولوية لدى معظم الأشخاص.

وستُطوّر التكنولوجيا المستخدمة لخلق بيئة عمل تفاعلية في المنزل حتى. فتحدّثت شركة «فاست» سابقاً عن ظهور تقنية جديدة، هي عبارة عن نافذة افتراضية اصطناعية من تصميم شركة «أرغوديزاين»، اسمها «ذا سكوار»، أي المربّع، تعلّق على جدار بجانب المكتب وتظهر لك زملاءك وهم يعملون، كأنهم موجودون إلى جانبك.

4- التعليم عن بُعد سيسطر على الشركات
تدرك معظم الشركات اليوم أن التدريب والتعليم اللذين يهدفان إلى صقل مهارات العمّال ضروريان لتحفيز الابتكار والتقدّم الاستراتيجي. وكانت معظم الشركات تلجأ إلى ورشات العمل والحلقات الدراسية للقيام بهذه المهمّة. ولكن ما بعد وباء «كورونا»، سيأخذ التعلّم عن بعد الحيّز الأكبر من هذه العملية. ولن يختفي التعلّم وجهاً لوجه تماماً إلا أنه سيحتفظ بمساحة ضئيلة من برنامج التعليم الذي تقدّمه الشركة. وتسارع الشركات إلى تطوير منصاتها الإلكترونية لضمان أنّ موظفيها لا زالوا يبنون المهارات اللازمة ويتطورون مهنياً من خلال الطريقة الجديدة.

5- قواعد زيّ العمل بدأت بالزوال
حتى إذا كنت ترتدي ملابسك أثناء العمل من المنزل، فأنت حتماً لا تلبس البدلة أو الحذاء العالي. وإذا كان بعض العاملين في القطاعات المالية سيبقون على ربطة العنق والقميص البيضاء، فإن زي العمل بدأ يميل بسرعة إلى أن يكون اعتيادياً وغير رسمي كما هو الحال لدى بعض الشركات التي تسمح بارتداء ملابس اعتيادية في الأيام التي يكون موظفوها غير مضطرين لمقابلة العملاء.

6- ترسيخ دور تقنية الفيديو وكسر الحواجز
أصبحت تطبيقات الفيديو، ومنها «زوم» و«سكايب» و«هانغ أوت» وغيرها، التي جعلت من تجربة العمل من المنزل ممكنة، مترسّخةً في معظم الأعمال بطرق عدة وسيكون من الصعب إزالتها. وبعد أن اعتاد الموظفون والمدراء على رؤية بعضهم البعض في منازلهم الطبيعية، تلاشى مع الوقت الخط الذي يفصل بين حياة العمل والحياة الشخصية. ولسخرية القدر، التكنولوجيا هذه المرة هي من جعلت هذا التحوّل ممكناً. غير أنّ عالم الشركات الجديد هذا جعلنا في المقابل نقدّر إنسانيتنا «غير الروبوتية» أكثر من أي وقت مضى.