تعود بقسوة في هذه الأيام معادلة البشر والحجر في معرض التحليلات الخاصة بالشرق الأوسط. أنشطة التدمير الممنهج للإرث الثقافي في هذه المنطقة على يد بعض الجماعات التي تكسب أراضي متزايدة من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام، وربما قريباً في شبه الجزيرة العربية، توضح أن هناك عقلاً خبيثاً يُشغّل ممحاة لمحاولة القضاء على الجميل الذي بقي من التاريخ. قد نجد بعض التعزية في أن الإبداع الإنساني باستطاعته إنتاج جميل جديد في المستقبل، ولكن شرط هذا العزاء أن يكون الرصيد البشري في المنطقة، أي رأسمالها الحي الواعي، في تطور مستمر ليُشكّل ثروة حقيقية في مستقبلها الاقتصادي والثقافي.
للأسف، هذا الشرط غير متوفر حالياً.

من الأسوأ عالمياً

وفقاً لدراسة مؤشر رأس المالي البشري لعام 2015 التي نشرها المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعدّ الثانية الأسوأ بين المناطق الست التي يدرسها، بعد أفريقيا وجنوب الصحراء، وتشمل بمجملها 124 بلداً.
الأقاليم الأخرى هي، بحسب ترتيب المؤشر: أميركا الشمالية، أوروبا وآسيا الوسطى، أميركا اللاتينية والكاريبي، آسيا والمحيط الهادئ.
تشمل المنطقة بحسب التصنيف الذي اعتمدته الدراسة 12 بلداً "تُقدّم بيانات يُعتمد عليها لإعداد الدراسة" (تضمّ إسرائيل غير أنها تستثني لبنان) وبلغ مؤشرها العام 60.5 نقطة، أي أقل من المعدل العالمي بحوالي 7 نقاط، وهو فارق كبير.
وتُعرّف الدراسة رأس المال البشري لكل دولة بأنه "مجموعة المهارات والقدرات التي يتمتع بها السكان والتي يُمكن استثمارها للإنتاج". ويُشدّد على أن هذا الأصل قد يكون "فعلياً، أكثر أهمية للنجاح الاقتصادي على المدى الطويل، من أي مورد آخر". ولذا "يجب الاستثمار في هذا المورد بفاعلية بهدف توليد العوائد للأفراد المعنيين وللمجتمع برمته".

خلل

ولكن في حالة البلدان العربية المدروسة (راجع الجدول المرفق)، لا يظهر هذا الاهتمام، على الأقل من حيث النتائج. بل إن البحث يُفضي إلى خلاصات أكثر إيلاماً. "إنّ المعدل الذي تُحققه المنطقة يُخفي اختلافات هائلة في أداء (البلدان المعنية) على مستوى الموارد البشرية".
ففيما تُرصد بلدان في المنطقة بين الـ50% الأوائل في التصنيف العالمي، تقبع بلدان أخرى في أسفل التصنيف.
ويُمكن رصد مشاكل المقومات البشرية في المنطقة بحسب الشرائح العمرية وبالتالي المراحل التعليمية، وأيضاً معدلات البطالة والقدرات على التأهيل وتطوير المواهب. مثلاً، صحيح أن الإمارات العربية المتحدة وقطر تُسجّلان نتائج مهمة على مستوى التعليم الابتدائي ــــ إذ يحل البلدان في المرتبتين 13 و9 عالمياً على التوالي ــــ إلا أنهما تسقطان إلى أدنى المعدلات العالمية، لدى قياس مستوى الانخراط الجامعي للفئة العمرية 15-24 عاماً.

في مقابل عوامل الكبح والتقصير في تطوير الموارد البشرية في لبنان، تبرز إسرائيل على أنها البلد الأوّل في هذا المجال على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا


من جهة أخرى، تؤكد نتائج الدراسة أن "الأداء الاقتصادي وحده يُعد مقياساً غير ملائم لتحديد قدرة البلدان على الاستغلال الناجح لمقوماتها البشرية". وهنا يُمكن استعراض مثالي السعودية ومصر، البلدان العربيان الأكثر كثافة سكانياً واللذان يحلان في المرتبة نفسها تقريباً عالمياً. بحسب التقويم الاقتصادي البحت وحصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، هناك تقدم واضح للمملكة، غير أن البلدين يعانيان بالدرجة نفسها على مستوى بطالة الشباب ومؤشرات العدالة الجندرية في سوق العمل.
ولكن رغم كل ذلك، وإذا ارتأينا النظر بعين متفائلة، تُشكّل الفوارق الكبيرة المسجلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "فرصاً أمام بلدان المنطقة للتعلم من بعضها"، يقول التقرير.
فعلياً، فإن نمط حركة اليد العاملة، أي هجرة الموارد البشرية، خلال العقود الماضية، تُظهر نوعاً من التبادل البشري المنطقي بين البلدان من المحيط إلى الخليج.

لبنان... أساسا

وعلى الرغم من أن تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي يستثني لبنان من دراسته ــــ على ما يبدو لعدم توفّر البيانات المدمجة والكافية ــــ يبقى هذا البلد أساسياً في البحث الخاص بالقدرات البشرية للشرق الأوسط برمته.
"في تباين مع البلدان التي تعتمد بنحو شبه كلي على الموارد الطبيعية وعلى القطاع العام الضخم، يتمتع لبنان بقوى عاملة موهوبة وقوية وبقطاع خاص متين" يقول كتاب "مواجهة تحديات رأس المال البشري في القرن الواحد والعشرين" الذي أعدته مؤسسة الأبحاث "راند" عام 2008 عبر فرعها القطري؛ والكتاب خاص بدراسة المبادرات الأكاديمية وتلك الخاصة بسوق العمل في أربعة بلدان عربية، هي الإمارات العربية المتحدة، قطر، عمان ولبنان.
يؤكّد معدو الكتاب أن غنى لبنان على صعيد الموارد البشرية لطالما "عوّض له نقص الموارد الطبيعية" على الرغم من أن الأوضاع السياسية في البلاد ووضعيتها الجيوسياسية في المنطقة أدت في الوقت نفسه إلى هجرة أدمغة ومهارات على مر السنين (كذلك فإن غياب الرؤى التنموية الشفافة في ظل معدلات الفساد الخيالية حطمت المقومات المؤسساتية لبقاء العمال المهرة والخريجين في وطنهم).
اللافت هو أن لبنان، الذي يُمكن تصنيفه بحسب هذا التقويم أنه خزان الموارد البشرية الماهرة للشرق الأوسط، يواجه في الوقت نفسه "خليطاً من التحديات التي تبرز أمام البلدان الخليجية الثلاثة المدروسة". منها نوعية التعليم المتوفر للعموم في المراحل التعليمية الأساسية، إضافة إلى ضعف ــــ أو بالأحرى غياب ـــــ برامج تحضير الطلاب لسوق العمل وصولاً بالتالي إلى معدلات البطالة العالية في أوساط الشباب.
في مقابل عوامل الكبح والتقصير في تطوير الموارد البشرية في لبنان، تبرز إسرائيل على أنها البلد الأوّل في هذا المجال على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تحل من بين أهم ثلاثين بلداً عالمياً. "تستفيد إسرائيل من معدل عالٍ للتحصيل العلمي الجامعي في الفئة العمرية 15-24 عاماً التي تُعد قلب القوى العالمية" تقول دراسة المنتدى الاقتصادي العالمي؛ وينعكس هذا الأمر توظيفاً أكبر للعمالة الماهرة (بنسبة 49.7%، وهي النسبة الرابعة الأكبر عالمياً) وسهولة أكبر للشركات لإيجاد العمال الماهرين.
هذه هي إذاً، باختصار، حالة الموارد البشرية في الشرق الأوسط. ربما حالة الحجر بكل المصاعب التي تمر بها تبقى أفضل منها.