في عام 2015، أطلق البنك اللبناني الفرنسي مسابقة دولية في الهندسة المعمارية، لتشييد مقرّه الرئيسي عند المدخل الشمالي لمدينة بيروت في منطقة مار مخايل. المسابقة لم تكن سباقاً بين مقاولين على تشييد مساحات مبنية، بل كانت تنافساً بين المكاتب الهندسية لتقديم مقاربة ضمن معايير محدّدة مسبقاً. الخطوط العريضة التي رسمها البنك اللبناني الفرنسي لم ترتبط بكلفة البناء والأسعار، بل بهوية المبنى المنوي إنشاؤه. المطلوب تقديم مقاربة بيئية تؤمّن مساحات عامة تسهم في نمو المحيط الاجتماعي لمنطقة مار مخايل. المبنى يجب أن يعزّز التفاعل والإنتاجية لدى الموظفين، وألا يعكس الهدف الأكثر شيوعاً بين المصارف، أي الربحية، بل يجب أن يعكس سجّل المصرف في المبادرات البيئية والشبابية ومستقبل المدينة ومبادراته الاجتماعية. كانت صعوبة هذه المهمة أن المبنى سيكون مقرّاً لمصرف يصنّف ضمن مصارف "ألفا" الأكبر في لبنان، ولديه شبكة فروع كبيرة تشمل 56 فرعاً و154 صرافاً آلياً، لكن المديرة العامة في البنك ريا روفايل نحاس اختصرت الهدف بعبارة واحدة: "المصرف ليس منفصلاً عن المدينة". ترى ريا أن المقرّ الجديد يجب أن يتفاعل مع محيطه لتطويره، وأن يحاكي مار مخايل وبيروت بمساحاته العامة الرحبة واتصاله المتنوع بمحيطه. وأهمية هذا المقرّ متصلة بنموّ البنك اللبناني الفرنسي في السنوات الـ12 الأخيرة، إذ تضاعفت ميزانيته أربع مرات وزاد عدد العاملين لديه مرتين، ما يعني أن هناك حاجة إلى مقرّ عمل "يواكب هذا النموّ ويترجم رؤيتنا للمستقبل تماشياً مع تاريخنا وإرث مؤسسنا. ونحن نريد بيئة تجسّد قِيَمنا، وتقدم لزبائننا أفضل خدمة، وتستقبل الناس وتكون لنا بيتاً ثانياً. الهندسة المعمارية يمكنها أن تفتح المجال أمام تجارب إيجابية لمجتمع مصرفنا ومحيطه"، بحسب الرؤية التي عبرت عنها إدارة البنك.
هكذا صارت هوية المقرّ هاجساً، سرعان ما تحوّل إلى "مغامرة استثنائية شيّقة". البحث عن المكاتب الهندسية المناسبة جرى بالتعاون مع المهندس والاستشاري الإيطالي لوكا موليناري. "ركّزنا البحث عن مهندس مبدع قادر على فهم قيم المصرف وتقاليده وطموحاته، وعلى تجسيدها، وعلى تقديم رؤية تتماشى مع محيط بيروت بما فيه من تفاوت مدني واجتماعي" يقول موليناري. ويشير إلى أن الاختيار في البدء وقع على 35 مهندساً معروفاً وموهبة ناشئة محلياً وعالمياً، "سافرنا من مدينة إلى أخرى للقاء كل منهم في مكتبه قبل تقليص العدد إلى 8 متبارين هم: مكتب الهندسة الدنماركي الأميركي BIG، والإسبانيBarozzi Veiga، والبريطاني Farshid Moussavi، والياباني Kengo Kuma، والإيطالي Piuarch، والنروجي الأميركي Snøhetta، بالإضافة إلى اللبنانيين نبيل غلام ويوسف طعمة".
في هذا الإطار، دُعي المتبارون النهائيون الثمانية إلى ورشة عمل تمهيدية لثلاثة أيام في بيروت من 21 كانون الثاني 2016 إلى 23 منه، بهدف التعرف إلى المصرف وهويته ومتطلباته، وإلى المدينة وسكانها وموقع المشروع. وفي نيسان 2016، قدّم ممثّلو المكاتب الثمانية مشاريعهم أمام لجنة دولية مؤلَّفة من وليد روفايل (رئيس مجلس الإدارة والمدير العام في البنك اللبناني الفرنسي)، وريّا روفايل نحاس (مديرة عامة في البنك اللبناني الفرنسي)، ولوكا موليناري (مهندس معماري وبروفيسور ومستشار)، وهاشم سركيس (عميد كلية الهندسة في جامعة MIT)، وجان كريستوف فرومانتان (نائب في البرلمان الفرنسي ورئيس بلدية نويّي سور سين) ولي براين زهانغ (بروفيسور في بيكين ورئيس تحرير مجلة World Architecture).
مقاربة بيئية تؤمّن مساحات عامة تسهم في نمو المحيط الاجتماعي لمنطقة مار مخايل

المفاجأة تمثّلت في عجز اللجنة عن تسمية فائز واحد، فاختارت ثلاثة مكاتب (Barozzi Veiga وBIG وSnøhetta) من أجل التعمّق في مشاريعها ومنحها فرصة أوسع في مناقشة عروضها. أجريت عدّة لقاءات عامة لهؤلاء المعماريين في إطار محاضرات ومعارض واستقبالات نظّمها البنك اللبناني الفرنسي للقاء أساتذة جامعيّين وفنّانين ومحترفين عاملين في السوق العقارية.
من أبرز النشاطات التي شاركت فيها المكاتب الثلاثة المتنافسة، هي تلك التي أجريت في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية. يومها تحدّث المتبارون الثلاثة أمام أساتذة وطلاب وعاملين في قطاع العقارات. كلّ منهم قدّم فلسفة مشروعه. ميزتهم أن تفسيراتهم لهذه العمارة المقترحة تخطّت الاسمنت وتحدّثت بلغة مختلفة. ممثل مكتب سوهيتا الفائز بالمسابقة، تحدث عن نوعية الحياة وقوة التغيير والانسجام في المجتمع والاندماج مع المحيط، ليؤكد أن الأماكن تتفاعل مع البشر، وأن لديها هوية. مشروع سنوهيتا "يحمل هوية الجيل المقبل، حيث الفرد يجد نفسه مع الجماعة وحيث لا يمكن بناء الجماعة من دون تصحيح فردي. التصحيح يمتد إلى الأدوات الفردية ولا يقف عند حدود معيّنة. العمارة هي إحدى تلك الأدوات التي توصل الزمن بالمساحات وتملك قدرة التأثير النفسي. لا توجد هندسة بلا ناس. المبنى هو هوية تنتمي إلى الذاكرة الجماعية، وهو اختبار للعقل. يجب أن نكون قادرين على التركيز، وأن نكون حشريين، وأن يكون لدينا سرعة بديهة، وحدس وكرم وقاعدة معرفية... كل ذلك يكمن في العمارة".
هذه الكلمات التي وضعها ممثل مكتب سوهيتا في إطار "هندسة المستقبل"، أثارت شغف لجنة التحكيم. تبيّن أنه هو الفائز. إلا أن هذه المهمة لم تكن سهلة، بل "كانت شاقة"، وفق ريا روفايل نحاس. السبب هو "الاختيار بين عدد من المشاريع الجميلة جداً التي صممها معماريّون ذوو مستوى رفيع... غير أن مشروع "The Magic Box" تميّز في النهاية بفضل فسحاته الداخلية الواسعة والمترابطة القادرة على مواكبة تطوّر المصرف المستقبلي، وعلى تحفيز التكيّف والتناغم بين فرق العمل وتعزيز الإنتاجية وروح الابتكار لدى موارده البشرية الشابّة والحيويّة، وكذلك بفضل المقاربة البيئية المندرجة في إطار التنمية المستدامة والفسحات العامة المشرّعة على محيط مار مخايل. استطاع مشروع "Snøhetta" أن يستجيب تماماً لشروط إرشادات التصميم الذي وضعه البنك اللبناني الفرنسي.
ووفق بيان صادر عن البنك اللبناني الفرنسي، فإن هذه المسابقة أتاحت الفرصة للخروج عن الأنماط التقليدية السائدة في الأبنية الخاصة في لبنان بهدف دمج الفسحات العامة ضمن مبنى المصرف، مع الحفاظ على أمنه ومراعاة تطورات التكنولوجيا الرقميّة وطرائق العمل التعاونيّة الجديدة. "أقنعنا فريق "Snøhetta" بأفكاره المبدعة والمُغرية حول الفسحات التعاونية وطرائق العمل المؤسساتية. رأينا أنها تتلاقى مع قيمنا وحرصنا على التفاصيل الدقيقة وعلى احترامنا بيئة بيروت ومجتمعها وتراثها التاريخي...".
أما كييتيل تريديل تورسين، المؤسّس والشريك في مكتب "سنوهيتا"، فقال: "مدينة كبيروت تُحدث تغييراً في تعريف التصنيف المُدُني وفي شتّى التعبيرات المعمارية. كما أن موقعاً كموقع مشروع البنك اللبناني الفرنسي يكثّف العلاقات بين مختلف الأحياء المحيطة به والبحر والجبل. وقد ترجمنا ذلك كلّه في مشروعنا". إنه مشروع قائم على هندسة معمارية رياديّة، يتألّف من واجهة حجرية ضخمة، ومن ترابطات عدة مع الخارج، ومقتطعات واسعة، ومنافذ مشرّعة قابلة للتعديل تُطلّ على مناظر ممتدّة على 360 درجة، أو حتى على نسخة رمزيّة لدرج مار مخايل... وكلّها عناصر من شأنها أن تجعل من المقرّ الجديد للمصرف صرحاً مدينياً لا يمكن تجنّبه، وعمارة مندمجة بانسجام في محيطها الجغرافي".