«خلافاً للطبيعة» من المصطلحات التي غالباً ما تصاحب ذكرها ابتسامة خفيفة عند الكثيرين، بعد الهجمات التي تعرضت لها من قبل جماعات ونشطاء حقوق الإنسان والحيوان والبيئة والمساواة... باتت العبارة مهددة بالاندثار بحيث تم استبدالها بمفردات كالمثلية والعلاقات الخاصة... لطالما كان هذا التعبير يستخدم في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي في وصف حالات «شاذة» وغير طبيعية من علاقات «إنسانية»... لا سيما الجنسية منها.
اليوم، ومع بداية عام 6102، يمكن التنبؤ بأن هذا المصطلح عاد، وسيعود، بقوة إلى حياتنا اليومية... حياة كل واحد منا، رغماً عنا، لا برضانا حتى.

■ ■ ■


علاقة الآن بين الإنسان والتكنولوجيا لا يمكن اختزالها ببضع كلمات، أو بمحاولات توصيف معينة وتحليلات وفذلكات مهما تعمّقت. أصبحت حالة كونية وفكرية متشعبة ومتداخلة من الصعب تفكيك تفاصيلها.
لتبسيط الموضوع، يمكن طرح الأسئلة السطحية التالية:
هل فكرت، من قبل، كم مرة تنظر فيها يومياً إلى هاتفك الخلوي... ويا حبذا لو كان ذكياً؟
هل عددت المرات التي تلامس فيها أناملك هذا الجهاز في اليوم والليلة (مداعبة وغيرها)؟ هل انتبهت من قبل كم مرة تقربه من شفتيك (أماكن حميمة لا يفترض أن يقربها الجميع)؟ هل خمّنت كم مرة تتحدث معه، تلجأ إليه حين تكون وحيداً أو وسط جمع من الناس حتى؟ كم مرة تسأله فيجيب، كم مرة يزودك بما تحتاجه من معلومات، كم مرة يلبي طلباتك من دون تذمر، كم مرة نسيته فتعود مرغماً لأجله، كم مرة استيقظت في منتصف الليل ليكون تفقده أول عمل تقوم به؟
هل تفكرت جدياً في العلاقة الحميمة التي تجمعك بغرامات بسيطة من الحديد والبلاستيك والزجاج؟ كثير منا لم يفعل.
هل قارنت بين عدد المرات التي تنظر فيها إلى هاتفك يومياً وعدد المرات التي تنظر فيها إلى زوجتك، أطفالك، صاحبتك، رفاقك، أهلك، زملائك...
سالفاً، كان من الطبيعي أن يلجأ الإنسان إلى منظر طبيعي طلباً للسكون والهدوء. أن تكون الخضرة والمياه نموذجاً لطالب الوحدة والراحة. اليوم بات الأمر خلافاً للطبيعة. بات اللجوء إلى الهاتف وما يختزله من تقديمات تكنولوجية ومعلوماتية هو الملاذ الاول للكثير منّا في أصعب الأوقات.

■ ■ ■


يا عزيزي كلنا مدمنون... لكننا نكابر. على الأقل أكثرنا يفعل ذلك، أما البقية فتمارس الإنكار الذاتي لهذه الحقيقة من دون أن تعي، أو ربما عن وعي... كما تؤكد دراسات عديدة وضعت في هذا الإطار.
بحسب دراسة حديثة صادرة عن جامعة ألباني الأميركية فإن الاستخدام المفرط للشبكات الاجتماعية يتحول بسهولة إلى إدمان مقنع.
إدمان غالباً ما يترافق مع اضطرابات السيطرة على الانفعالات، التي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تعاطي المخدرات أو الافراط في تناول الكحول، إلى الوحدة والتوتر والكآبة.
في تشرين الأول الماضي، ذكرت إدارة موقع فايسبوك أن لديها أكثر من 53.1 مليار مستخدم نشط، 008 مليون منهم يقومون بتسجيل دخول يومي على الموقع. وأظهر تقرير للمستهلكين أن 17% من تسجيلات الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي تتم من خلال أجهزة الهواتف النقالة.
دراسة أخرى أظهرت أن «الإخطارات الجديدة snoitacfiiton» مهما يكن مصدرها وعدم القدرة على التنبؤ بمحتواها الجديد، تجعل المستخدمين مرتبطين بأجهزتهم باستمرار. أحد أهم المخاطر في تحول هذا الارتباط إلى إدمان هو إنكار المستخدم نفسه لحقيقة أنه أصبح مدمناً بالفعل.

■ ■ ■


غالباً ما قامت الحضارات في الماضي حول نظرة فلسفية أو شاعرية لشرح العالم والإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى. حضارة اليوم تعبّر عن نفسها في شكل نشاط إنتاجي مفرط، وتوسع في الاستهلاك، مترافق مع شكل رفاهية متطورة لا أكثر.
يظهر هذا الوجه الجديد للحضارة نتيجة الاتحاد بين العلم والتقنية والانتاج. مع هذه القوة التنظيمية الدافعة تولد إمكانات جديدة للإنسان وأشكال وظروف تحدد ماهية وجوده.
الهاتف المحمول جزء من أنماط تكنولوجية متجددة تكرس مزيداً من السيطرة على مجريات كياننا المستقبلي.
شئنا أم أبينا إنها علاقة «خلافاً للطبيعة»... تبدل فيها الفاعل والمفعول به... رغم إنكارنا لذلك... لا يحتاج الأمر إلى تنبؤ فلكي.