التقاعد عند بدايات العقد الرابع. حلم يراود بالحد الأدنى 90% من موظفي القرن الواحد والعشرين. السبب هو أن حظوظ إيجاد الوظائف والفرص الملائمة واللائقة تزداد صعوبة، في مختلف الأقاليم، لذا فإنّ الجهود التي يبذلها الشباب في بدايات حياتهم المهنية تولّد إرهاقاً في نهاية العشرينيات وبالتالي رغبة بترك العمل والاستسلام للعيش والملذات. ولكن هناك شاباً أميركياً حقّق أخيراً ما يبغيه معظمنا
التقاعد في سن الثلاثين

براندون ساثرلاند، مطوّر برامج (Software Developer) حَسَم منذ فترة أنه لن يقضي نصف عمره المؤدي نحو سن التقاعد في وظيفة لأربعين ساعة في الأسبوع. بل سيعيش حياة السفر والاستكشاف والعيش لمراحل متقطعة في بلدان معينة يزورها ويكتشفها مع صديقته؛ أو ربما صديقاته.
"أخطط لترك وظيفتي مع بلوغي 32 عاماً، ولا أنوي البحث عن عمل آخر" كتب الشاب منتصف العام الماضي. "قد تظنون أن الأمر سحري، لكنه ليس كذلك أبداً، فأنا سأحقق ذلك عبر مراقبة مصروفي، واستثمار القدر الأكبر من راتبي".
فعلياً، وصل ساثرلاند إلى استثمار أكثر من 70% من راتبه في البرامج الاستثمارية العديدة التي تؤمّنها السوق الأميركية، من برامج التقاعد وصولا إلى الأسهم السندات. "هكذا أتوقع أن تؤمّن محفظتي الاستثمارية مصاريفي الاساسية خلال العقود الثلاثة المقبلة، وربما بعدها أيضاً، وبالتالي فإنّ إيجاد وظيفة يُصبح خياراً وليس ضرورة".
سحر هذا الشاب الكثيرين بخطته التي شرحها بالتفصيل في مقالة شهيرة، وربما ألهم معظمهم لصياغة خطّته الخاصة.
صحيح أن هكذا خيار صعب في بلادنا نظراً لمحدودية الخيارات الاستثمارية وتخلف السوق المالية، إلا أن مجموعة من الإجراءات البسيطة قد تؤمن هامشاً لا بأس به لادخار بعض المال واستثماره في مختلف المجالات أكان التوليد دخل جديد مباشر، أم لتأمين القاعدة الضرورية لرفع مستوى الدخل.

الشيطان في التفاصيل

الفكرة الأساسية هي في التنبّه إلى المصاريف الصغيرة التي تُرهق الجيب على مدار أيام السنة وتُشكّل "دكّة" دسمة من الإنفاق غير الضروري. مثلاً إنفاق 4 دولارات لشراء فنجان قهوة – مع المنكهات والكريما ورشات القرفة - من سلاسل القهوة الشهيرة خلال خمسة أيام في الأسبوع، يؤدي في نهاية العام إلى إنفاق إجمالي يفوق ألف دولار.
ليس المطلوب الامتناع كلياً عن هذا التلذذ، ولكن التفكير فيه مرتين – وبمضاره الصحية أيضاً – يدفع إلى كبح الحاجة له. اليوم أضحى الادخار تماماً كخفض الوزن، تحدياً مطلوباً عند بداية كل عام، وفي كلّ مفصل من حياة الشباب المنطلق نحو تعقيدات الحياة. وفعلياً، لا يُمكن تخطي الكثير – إن لم يكن أياً – من التحديات التي تفرضها حياة البلوغ في بداياتها من دون وضع الأموال جانباً بهدف استثمارها.
وتماماً كما العلاقة مع مؤشرات الوزن وتأثير السكريات والدهون، أضحت لإدارة الأموال الشخصية تطبيقاتها الخاصة التي يُمكن تنزيلها عبر الأسواق الإلكترونية المختلفة. هناك مثلاً تطبيق Mint الشهير لأندرويد وآبل، وكذلك تطبيقات مثل Pageonce وLedgerist.
تطبيقات تساعد الفرد، وفقاً لحاجاته، على تسيير شؤونه المالية عبر فرز مدخوله على نحو دقيق بين الإنفاق الاستهلاكي، الترفيهي والضروري لتأمين أكبر قدر ممكن من المدخرات الشهرية.
وعموماً تُصنّف علاقة النفس مع المال والمحفزات الاستهلاكية التي يحركها بأنها تركيبة معقدة من المحددات الاجتماعية والحاجات الخاصة.
لكلّ منّا شخصيته
وجموحه، وبالتالي لا يجدر بالمرء جلد نفسه لإجبارها على تأجيل
كافّة الملذّات


لا للجلد

من هنا يؤكد الخبراء أن لكلّ منّا شخصيته وجموحه، وبالتالي لا يجدر بالمرء جلد نفسه لإجبارها على تأجيل كافّة الملذّات؛ فبعضها قد يفقد نكهته مع الوقت. لذا ينصح علماء الإدارة المالية، من منطلق تقويم النفس، على التسامح مع الذات وقياس أدائها في إدارة الأموال على أنه ماراتون طويل وليس سباقا سريعا لمئة متر فقط.
وقد أثبتت دراسة يستند إليها أستاذ علم النفس في جامعة سكرانتون الأميركية، جون نوركروس – وهو صاحب كتاب: "علم التغيير: 5 خطوات لتحقيق الأهداف والتحديات" - أن أكثر من 71% من الأشخاص الذين نجحوا في نهاية المطاف في حسن إدارة أموالهم، تعلّموا من انزلاقتهم الأولي وبأن هذه الإنزلاقة – وهي بطبيعة الحال "إفراط في الإنفاق" – شكّلت حافزاً لتصحيح المسار.
على أي حال، هناك خمسة سلوكيات أساسية تُعدّ دالّة على سوء الإدارة المالية الشخصية، وفقاً لموقع CheatSheet الخاص بإدارة الأموال الشخصية.

تصحيح سلوكيات

لذا فإنّ تصحيح هذه السلوكيات أو الابتعاد عنها، يُعدّ مدخلاً صوب إدارة مالية صحيّة لم تسمح له شخصيته بذلك!
أوّلاً، عدم إعداد موازنة لإدارة المدخول يُسجّل فيها كل الأموال الواردة وتُخصم منها الفواتير والنفقات المختلفة، وطبعاً ما يُرصد للادخار. هكذا موازنة ضرورية بالدرجة الأولى لعدم تخطّي سقف الإنفاق الطبيعي الذي يفرضه مستوى الدخل. وليس بالضرورة أن تكون هذه الموازنة على شكل جدول مرسوم على ورقة تُحدث الكآبة كلما نظرت إليها، بل ورقة إلكترونية على الهاتف الذكي أو الكمبيوتر.
ثانياً، شراء السلع الجديدة. صحيح أنّ جاذبية السلع الاستهلاكية من كافة المجالات لا يضاهيها بريق في نظر مستهلك القرن الواحد والعشرين، إلا أنّ الركود إلى السلع المستعملة قد يوفّر مبالغ دسمة تُشكّل هامشاً مهماً للادخار لدى مراكمتها. غير أن فاعلية هذا الخيار في السوق اللبنانية يبقى مقتصراً على الإلكترونيات والسيارات عموماً، كون هذه السوق لم تطوّر بشكل حديث المجال الرقمي للتجارة الإلكترونية – مثل موقعي Amazon وeBay -الذي يُشكّل حيزاً لعرض مختلف أنواع السلع المستعملة، من التذكارات وصولاً إلى ثياب الأطفال والمنتجات الخاصة بهم.
ثالثاً، الإنفاق أكثر من الإنتاج. وقد أضحى هذا السلوك شبه طبيعي في البلدان النامية والمتقدمة، وفي مختلف الثقافات، في ظل التسهيلات الائتمانية التي توفرها المصارف عبر البطاقات الإلكترونية والسقوف العالية التي توفّرها. ولا حاجة لشرح المشاكل الناجمة عن هذا السلوك: بالحد الأدنى لن تعود هناك أموال لإدارتها! كذلك فإنّ الإنفاق أقل من الإنتاج عادة ما يوفّر راحة بال ومجالاً للمناورة المالية ولردّ الديون، بل حتّى إمكان تغيير الوظيفة نظراً للراحة المادية نسبياً.
رابعاً، عدم التفكير بادخار الأموال لمرحلة التقاعد. صحيح أن هكذا تفكير يبدو ترفاً في لبنان في ظلّ محدودية الخيارات المتوفرة لتطوير الحسابات الادخارية – إن كان المرء مشمولاً أساساً بنظام للتقاعد ولنهاية الخدمة – إلا أن بعض الخيارات قد تنبت من التفكير في المستقبل، وقد يكون ادخار الأموال بهدف الاستثمار المباشر، وادخار تلك الأموال للمستقبل.
خامساً، عدم الادخار للحالات الطارئة. والنتيجة السلبية الخطيرة الناجمة عن هذا السلوك تتمثل أساساً في الحاجة التي ترتّب على المرء الاقتراض إن عبر البطاقات الائتمانية أو عبر القروض ذات الفوائد المرتفعة، ما يجعله عالقاً في دوامة استدانة جديدة في المستقبل ويُصعّب عليه عملية إدارة الأموال.
ليست هذه النصائح وصفة سحرية، غير أنّها بداية مهمّة تساهم بإدارة "القرش الأبيض" وتروضه لكي يبقى في خانة الادخار، كيلا تُفرّط به الأهواء الاستهلاكية في مختلف الأسواق.