ثمّة معادلة ثلاثيّة للأجساد الفلسطينية تشكّل جوهر صراعها وركيزته الأساسية، وهي بسياقها العام تمثّل الوعي المقدّس للقيم الفلسطينية التحررية، ومنظومة عملها. هذه الأجساد الثلاثة، تمتد عبر التاريخ الفلسطيني إلى بداية صراعه، والمحاولات الدؤوبة لتهميشه ومحوه، كما أنها تتعرّض على الدوام لهجمات تحاول أن تهوي بها جميعاً. يحددّ إسماعيل ناشف في دراسته «في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب: إشكاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ» هذه الأجساد ويقسمّها على الشكل الآتي: «جسد الأرض، الجسد الجمعي، والجسد الفردي». هذه الثلاثية لا تزال حاضرة حتى هذه اللحظة، بقدسيّة، تحاول ألّا تتهاوى أطرافها سوية.
ظهور الفردي
كانت محاولات بريطانيا بفرعَيها الرسمي وغير المباشر، أي الحركة الصهيونية، لشراء جسد الأرض، هادفة إلى السيطرة على الجسدين الآخرين: الجمعي والفردي من أجل تفكيكهما. إن نكبة فلسطين ١٩٤٨ هي لحظة فقدان جسد الأرض، تلاها فقدان الجسد الجمعي، وتشرّد الفردي. بقي جسد الأرض، بحسب دراسة ناشف، البؤرة الأساسية لغاية ١٩٤٨ ثم أصبح الجسد الجمعي هو الحلبة الأساسية في ١٩٦٧. ثم أخيراً حدث الانزياح الذي تتوّج في أوسلو، بعزل الجسد الجمعي في كانتونات استعمارية، ما حوّل الجسد الفردي من موقعه الثانوي إلى موقع البؤرة الأساسية.

(رسم: ميليسا شلهوب)

هذه الخلفيات والإحداثيات، وفضاءات الصراع، باختصار، أنشأت الفرديّ الفلسطينيّ، أو دفعته وحده إلى مركز الصراع. جسد جائع، يحاول بما لديه من قدرات على الاحتجاج، وما لديه من حيّز للقيام بفعل، أن يعوّض، أو يعيد تعبئة، الجسد الجمعي، في مسعى لهدفٍ مقدّس، هو التحرّر، أو بكلمات أخرى: استعادة جسد الأرض. الجسد الفردي إذاً، جائعٌ ليكون أداة مُقاوِمة، مصحوب برغبة نهمة في أن يكون جمعياً. هذا الجوع الذي يدفع به، ليس إلّا محاولة، في واحد من الاحتمالات، للاتّصال بالجمعيّ من جديد. أي أنه جوعٌ إلى الجمعيّ، الذي إن اتّحد معه، أي إن استطاع الفردي أن يشكّل نفسه جمعياً، سيتحوّل الجوع إلى جسد الأرض.

الجسد كأداة
منذ بداية الكفاح المسلّح وفرض نفسه كفعل أساس في أواسط الستينيات من القرن الماضي، ارتبطت هذه الممارسة بمفهوم الفدائي في الثقافة الفلسطينية، كما أنه وُضع كقيمة عليا. هذه القيميّة، كما يقول ناشف، منعت الكثيرين من قراءة العلاقة بين الأداة، البندقيّة، القنبلة، المدفع إلخ وبين الجسد الفلسطينيّ الذي يحملها ويستخدمها، ولا سيّما أنه، في أحيان كثيرة، تشابك المفهومان معاً: مفهوم الأداة ومفهوم الجسد. «وعليه لم يُطرح سؤال نقديّ حول تاريخ ممارسة الكفاح المسلَّح الذي غلب عليه استنفاد الذخيرة المرافق له استنفاد للجسد الذي يحمل ويستخدم هذه الذخيرة. بل على العكس، صعد الشهيد فوق ذخيرته وأدواته العسكريّة، والأهمّ أنّ الشهيد نفى مفهوم الجسد بادّعاء أنّ الجسد الفلسطينيّ الجمعيّ لن يعود، ولا يمكنه أن يعود إلا من خلال نفي جسد الفدائيّ الفلسطينيّ. هكذا أصبح لدينا مقدَّس مقابل اليوميّ، العاديّ، والأرضيّ». هذا التشابك بين المفهومين جعل من الطبيعي حين لم تعد هناك أداة يحملها الجسد، أن يصير الجسد نفسه أداةً.
وقد تقبّل الجسد دوره هذا، واختاره لنفسه، لأنه فقد الاحتمالات، وصار من المحتم عليه أن يبتكر أساليب وأشكالاً جديدة، هو وحده قوامها. وقد عزّز جوع الجسد، تَوقه إلى المقاومة، كلّ ذلك، فتأقلم نفسه على أن يكون أداة الاحتجاج، وتموضع، في الفضاء الفلسطيني، على أنه الفعل المقاوِم. إنه بآنٍ معاً أداة الفعل والفاعل. إنه جسدٌ جائع يعرف إمكاناته. يتطلّب مثل هذا الاستنزاف الكثير من الانتصارات على مخاوف مجرّدة ومشروعة، أضخمها «الخوف من الموت». يبدأ ذلك من المسميات: الشهيد، المقاتل، الفدائي، الاستشهادي، كما يقول بلال عوض سلامة في دراسته «العمليات الاستشهادية الفلسطينية، تطور الجسد كأداة مقاومة» كمعطى تحريضي تعبوي وثوري لأجساد تستدعيها حالة الاشتباك وضراوته.
تحمل هذه المقولة «التغلب على الخوف من الموت» في داخلها مصفوفة نفسية وسياسية، كما تعطي الجسد الجائع دافعاً يتجاوز اللاشعور إلى منطقة الوعي، تجعله يدرك أن الموت أمر طبيعي. في هذه الحالة من الجوع إلى المقاومة، يشعر الجسد الفردي بالرضى من خلال قدرته على تغيير موازين القوى، وحينها، بكلمات مي جيوسي «يتقدم الفرد متطوعاً بتكريس جسده لهدفٍ مقدّس».
على الطرف الآخر، وفي بيئة يحكمها الاستعمار، وقد تسرّب الموت بمجانيّته، أو القتل المجاني إلى ثقافتها وصار من مخزونها وموروثها، والجسد فيها معرّض للتعذيب والانتهاك في أيّ لحظة، يصير هذا التعرّض ومحاولات تطويع الجسد شبيهة بما كان يحدث أثناء مراحل الانتقال في المجتمعات الأولى. إنّ الضرب، والاعتقال، والتعنيف، وجملة الانتهاكات التي تخدش الجسد الفلسطيني من قبل الاحتلال، يتحوّل إلى طقوس للانتقال من المراهقة إلى الرجولة. إنه تأهيلٌ للجسد، وتحضيره للفرديّ الكامن فيه الذي يريد تغيير موازين القوى. يعتقد الاحتلال بعنفه الممارَس أنه يُخضع الجسد ويطوّعه، إلا أنه على العكس، يعطيه طقوس انتقاله من الطفولة إلى الرجولة، لا للشباب خاصّة، بل للمجتمع الفلسطيني بعموميّته. وعلى المستوى نفسه، هذا الاحتمال بأنّ الجسد معرّض للانتهاك في أيّ لحظة، أو لمجانيّة القتل، أو لعناوين كثيرة: التعذيب، النفي، السجن، العزل، القمع، التطويع… يجعله يجوع إلى تقرير مصيره بنفسه والتحكّم بما سيؤول إليه. هو أيضاً محاولة لامتلاك الجسد الفردي المقاوم المختلف عن الجسد السياسي الذي فرضته السلطة الفلسطينية والاحتلال معاً. وعلى مستوى ثانٍ، مستوى الميتافيزيقيا والأفكار المجرّدة التي تصبّ في المعاني الفلسطينية، فإن الجسد الفلسطيني، الذي يتأهّل في مرحلةٍ ما للفرديّ الكامل، يحاول أن يستمد فاعليّته حتى على حساب نفيه أو فنائه في الواقع المَعيش. إنه متيقّن من كونه مُجدياً، ويريد أن يبعث بهذه الجدوى إلى الأجساد الأخرى، فيحاول أن يعبر على حساب فقدان جسده إلى «الحقيقيّ». فيمرّ، عبر طقوسٍ ورمزية، إلى واقعه الخاص، أو جملة آماله: حيث تنتهي مأساة عذابات الجسد، ويبدأ «الفردوس»/ «الجنة المفقودة». هذا الجسد يصير مرة جديدة، ولو عبر فقدانه أي موته، جسرَ عبور، ما يجعله فاعلاً حتى في انتهائه، ومُجدياً، ويمدّ بقيّة الأجساد التي تشكّل «الفرديّ» بفاعليّتها وجدواها.

الاستنزاف
في هذه الحالة من الاغتراب الوجودي التي يعيشها الفلسطيني، وبعد فقدان جسد الأرض والجسد الجمعي، يعتاش الجوع إلى المقاومة على الجسد الفردي ويقتات منه. كما أن الأفعال التي تصدر عنه، بلا شك، تضرّ هذا الجسد، كفاعل وأداة. لكن، في ظروفٍ قمعيّة وضارية كالتي يعيش فيها «الجسد» المُعرّض للانتهاك في أيّ لحظة، سوف يحاول، بجوعه ذلك، أن يجعل من جسده جسر عبور، وأن يعيد من خلاله «الجمعي». ذلك الجوع نفسه يقف بين الضرورة والحرية، وهو أقرب إلى الأولى من الثانية. تلك المعادلة الثلاثية للأجساد تقابلها معادلة ثلاثية لمقاومة الجسد الفردي، هي: الجسد نفسه، السكين، والنطفة. الجسد هو الأداة إذاً، لكنه أداة وحيدة، في جوعٍ دائم إلى أن يكون أداة، أن يُصدِر فعلاً مقاوماً، رغم معرفته للاستنزاف أو الضرر اللاحق به. ولكن ثمّة قيمة يؤمن بها، وضرورة، وحريّة، كما يحاول العبور إلى الحقيقي، إلى أن يصير فاعلاً، وجسرَ عبور.