لم تعد التقنية أو التكنولوجيا في يومنا الراهن مسألة اختيار، ولم يعد بالإمكان قبولها أو رفضها، بل تعدّت ذلك - كَونها خياراً مُتاحاً – لتصبح مسألة وعيٍ اجتماعي، ومسألة جهلٍ ومعرفة، أو حتى مسألة حداثة ورجعية. لقد فرضت علينا فعلَ تلقٍّ إلزامي لا يمكن رفضه، يتمثّل في ضرورة استخدامها لمواكبة «عصر القلق» الذي نعيش فيه، ولكي لا يُحكَم علينا، ثانياً، أمام الآخرين.على الرغم من ذلك، يقول عالم الكونيات كارل ساغان إننا «نعيش في مجتمع يعتمد بشكل شامل على العلوم والتكنولوجيا، لكن قمنا بترتيب الأمور بحيث لا يكاد أحدنا يفهم العلوم والتكنولوجيا». تتخطّى مسألة الفهم هذه فهمنا لطريقة الاستخدام البسيط، وتنحو إلى فهم القيود والتعقيدات التي تفرضها التكنولوجيا، بعدما أصبحت كائناً له وجود كما عرّف هايدغر التقنية.

(رسم: ميليسا شلهوب)

تفوّقت التكنولوجيا على الوجود في تسيّد سلطتها في كل شيء، بسطوة شمولية من الجائز أنها تحملنا - أو حملتنا - إلى عبودية من نوعٍ آخر ضمن علاقة بين سيدٍ وعبد، ينفّذ فيها الأخير ما يُملى عليه. ما دفع عدداً من الأكاديميين والباحثين إلى إطلاق تسمية «السلطة الخامسة» على الدور المعقد للتكنولوجيا ووسائل التواصل في المجتمع المعاصر. تضاف هذه السلطة إلى سلطات العالم الثالث التي قسمهم مونتسكيو: التنفيذية والتشريعية والقضائية. وفيما اتفق على تصنيف الإعلام التقليدي كسلطة رابعة، إلا أنه لم يعد لهذه السلطات الأربع مجتمعة القدرة على إنجاز مهامها على وجهٍ مقبول من دون معونة الخامسة.
لم تعد التكنولوجيا مجرّد موجود بين الموجودات، يمكن التعامل معه والتحكم فيه، بل أصبحت وجوداً يملي ويأمر ويفرض، وفي أحيانٍ أخرى يصحح أخطاءً يرتكبها الإنسان نفسه. لقد بلغت علاقتنا مع أجهزتها طوراً غرائبياً يجعلنا نخاف عليها من الضرر أكثر من خوفنا على أنفسنا كما لو أن لها ذاتاً خاصة. يمكن القول إنها ذاتٌ عارفة، أكثر من كونها موضوعاً يمكن للإنسان معرفته، وذلك منذ أن صارت لها حياة لا تختلف عن حياة الإنسان في شيء، ومنذ استطاعت، بقدرةٍ غريبة، أن تخترق الحياة الإنسانية في الليل والنهار، وحتى أثناء الإغفاء، لا بوصفها ملاكاً حارساً، إنما بوصفها كابوساً مريعاً يمنع الإنسان من النوم. فالخوارزميات تعرف تماماً ما بحث عنه المُستخدِم في وقتٍ ما، فتفرض عليه، ربما في أكثر لحظات حياته خصوصية، سلسلة من الاقتراحات التي «قد تهمّه مشاهدتها»، لينفذ هو ذلك بما يشبه الاستلاب. وبكلمات المفكر المغربي محمد سبيلا في كتابه «مدارات الحداثة» فإن: «الناس يصارعون من أجل عبوديتهم كما كانوا يكافحون من أجل خلاصهم». تقوم هذه العبارة ضمنياً على السؤال عمّا إذا كان التطوّر الهائل قد مكّننا من التحرر من قيود العبودية، أم أنه خطا بنا قدماً نحوها. فمثلاً لقد جعلنا من الهاتف سيداً، يفرض علينا سلطته، وهذا هو الصراع الذي يقودنا نحو العبودية بتعبير سبيلا، إلا أنه لم يعد صراعاً محكوماً باللحظة الراهنة، بل دخل نطاق المألوف، أو لم نعد نحن من نقرر شنّ حربٍ على التكنولوجيا كي نتفادى آثارها السلبية في حياتنا بل أضحت هي من تشن الحرب وتهددنا بحرماننا منها.
أما تعبير «يكافحون من أجل خلاصهم»، فذلك ينتمي إلى فترة ما قبل ظهور التكنولوجيا، حين كان الناس يتواصلون ضمن إطارٍ إنساني جماعي لم يكن التظاهر أو التعبير فيه يجري وفق «تريند»، وقبل أن تصير القضايا مُجزَّأة وآنية ما تلبث واحدة منها أن تثير الاهتمام للحظات حتى تظهر أخرى.
من النادر اليوم أن نصف قضيةً ما على أنها إنسانية شمولية، لأنه هناك، في العالم الرقمي من لا يهمّه الأمر، أو من لم يصله خبره، وثمة مجموعة تحكي في قضية أخرى، وأخرى تتناول مسألة مختلفة، ومجموعات ثالثة، ورابعة. أي أنّ الخلاص قد صار فردياً، مُختزَلاً، آنياً، وغالباً ما تبدو قضية إنسانية كانت تطغى على الوعي الجمعي وتثيره في زمنٍ ما، مثل مأساة أقلية من الأقليات، أو خطاب عنصري، لكنها قضية لن تتعدّى كونها خبراً يسبّب الانفعال للحظات.
على الطرف الآخر، تمنعنا التكنولوجيا في سلطتها المباشرة من حرية ارتكاب الأخطاء مهما بدت بسيطة، تهدّدنا بالخط الأحمر الذي يظهر أسفل الكلمة الخاطئة. هذه هي العلاقة التي نخوضها في استخدام برنامج وفق «مايكروسوفت وورد» على سبيل المثال، حين ندخلها طائعين ومنفّذين. فمَن الذي يتحكم بالآخر؟ إنها علاقة بين ذاتٍ عارفة وذاتٍ شكّاكة، ذات قادرة على التصحيح، وذات تلبّي بعماء مستسلمة إلى الاطمئنان الذي تمنحه الذات العارفة. لقد خضع وعينا في كليته إلى خلخلة، إذ أُلزِمنا على الانغماس في العالم الرقمي وأسلمنا حواسنا إليه، وفق مارشال ماكلوهان: لقد أصبح الإنسان فرداً اجتماعياً داخل «دائرة إلكترونية». إلا أنه إنسان قَلِق، مُجبَر على الانغماس في هذا العالم، حتى يصير الأمر عادة يومية وظاهرة اعتيادية ضمن عادات المجتمع. يمكننا تبيّن بعض آثار ذلك من خلال الاستخدام اليومي لمواقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك مثلاً، حيث يؤثر التفاعل في الحس الإنساني للفرد، فإما يحبطه أو يرفعه، إذ يصير لعدد اللايك أثرٌ ملحوظ، يلهث خلفه المستخدم المتربّص بشاشته مسلماً حواسه كلّها لذلك، مقابل نسيانه لوجوده الحق، وإمكانيات اختياره، وحتى لو استطاع العودة إلى الحياة الحقيقية، سوف يهرب منها مجدّداً ويرجع إلى العالم الرقمي، ليتلقّى ما يمليه عليه.