حدث ذات مرة، أن خفّاشاً لم يحظَ إبان طبخه بما يكفيه من النار حتى يستوي، قد قرّر لعن العالم. للخفافيش أيْدٍ تتحول إلى أجنحة، لكن لأيديها أيضاً، مقدرة تنافي ما يكون عليه الطيران وتركن على نقيضه؛ هي قدرتها على القبض على الأعناق، والشدّ عليها، وجرّها نزولاً حتى يلاقي المرء حتفه.تزعم الرواية أن مستر إكس، المتهم بارتكاب واحدة من أكبر مجازر القرن، أصيب بما يشبه وعكة صحية خطيرة جرّاء أكله خفاشاً نيئاً فتعرّض جهازه التنفسي للتلف ومات مختنقاً. جاءت كلمة مستر إكس الأخيرة على شكل صوت: عطسة. كلمته الذي لم يقلها، أتت كملحمة شتائم أنجزت غرضها، فعطسته تلك أزهقت أرواحاً عديدة فيما كمّمت أفواهَ وأيدي مَن بقوا على قيد حياة. إن البصاق الذي يخرج من الفم عقب العطس يأخذ من الجلد ممراً سلساً يسهّل مرور العدوى وانتقالها، وبالتالي كان على الناجي إذا أراد الحفاظ على حياته الاستغناء عن يده. ذلك أن العطس ينتقل باللمس، في حين أن اللمس يتجلّى في الحكّ والتصافح والاحتكاك، أي أن اللمس ضرب من ضروب الحياة في ظرفٍ يحدّق فيه الموت من كل حدب وصوب. وهذا كفيل لكي يُعتبر جنوناً. لذلك، كان على واحدنا أن يحفظ يده في جيبه، ويبقيها مدفونة، كيلا تصيبه اللوثة. على هذا النحو، باتت الحياة في إضراب عام تحت ما يُسمى الحجر المنزلي. المعنى هنا إن وجد هو تعليق لحاسة اللمس حتى أجل غير مسمى. تمرين شاقّ على التعامل مع اليد باعتبارها عضواً مبتوراً من الجسم. هكذا يعبّر المتمسك بالعيش عن نفسه رغم ضراوة ظروفه. عندما يُجبر على التنازل عما يخصّه، فهو يكتفي بالإذعان.

(رسم: فرانسوا الدويهي)

لطالما كانت اليد رمزاً إلى الإيعاز والتلميح. فها أنت تقول: «يداه ملطّختان بالدماء» وها أنا أسمع «يداه نظيفتان». كأنّ اليد ترمز إلى حقيقة صاحبها، أو كأنها تعريف مختزل به. كأن اليد تحيل إلى الفاعل الذي تلقائياً، يتحمل مسؤولية فعله. ساد مصطلح «الأيادي القذرة» بعد الحرب العالمية الثانية، وكان مطلقها الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي، قبل أن يستعيرها منه جان بول سارتر ويعنون بها إحدى مسرحياته. وخلاصتها، أن أمام الفظائع التي حدثت في الحرب كان على الناس أن يفعلوا شيئاً لإيقافها، فالضمير مهما كان خاصاً، يبقى في الوقت عينه عمومياً. أنا مسؤول عن الآخر بقدر ما أنا مسؤول عن نفسي، وعليه، إن يدَيْ كل من كان شاهداً على فظاعة الحرب هما، بالضرورة، قذرتان. في الحقبة التي بُترت منا أيدينا، تلك التي تزامنت مع الانهيار اللبناني العظيم، هناك من رأى في إضراب الحياة وسيلة مناسبة لديمومة إضرابه، وإن اليد المبتورة، بوصفها عوراء، كفيلة بأن لا تعترض وساخة يده. لا تزال لعنة ذاك الخفاش تطاردنا. صوته ما زال مسموعاً. هناك من قرّر أن يكون ذلك الخفاش، وأن يحفر بيده باب القبر.
ليس مستغرباً تشبيه جون كاربانتر لموظفي البنك في فيلمه «they live» عندما صوّرهم برؤوس«موميائية» على هيئة مسوخ كشفها على حقيقتها بطل الفيلم نادا، عقب دخوله إلى المصرف مرتدياً نظاراته الشمسية التي سمحت له برؤية الحقيقة كما هي عليه. والرؤية هنا هي الإبصار لا النظر، كشف للجوهر بعين تزيل اللثام عن الغشاوة لا التحديق في الشيء وتلقيه كما يُقدّم نفسه. رآهم نادا ورأيناهم معه من عينيه. يتميّز موظف البنك بصلافة لا مثيل لها تكاد تجعلك تفكر في أمره مرتين: هل هو عامل في عالم المال حقاً أم هو مُرابٍ لعين مجرّد من الحس الإنساني؟ في فلك الربح السريع، يتماهى العامل في عالم المال مع المرابي مثلما يتحوّل المرابي، بين ليلةٍ وضحاها، إلى عامل في عالم المال معرّفاً عن نفسه أمام ضيوفه كرجل أعمال. وهذا الخلط يجد مساراته سهلة في الفضاءات التي تخلقها النيوليبرالية، مثلاً يمكن لصحراء قاحلة أن تعرّف عن نفسها بأنها لندن، ولك أن تعترض إن شئت.
إن المصرف بما هو اختراع حديث، يشبه بمآلاته ما ذهبت إليه الفاشية، ففي صرامة عقابه ما يذكّر بعقوبة الدوتشي مع فارق زمني هو الوحيد. وبدلَ أن يقترن موظف البنك بالقاعدة الحداثية الأهم «فكّر قبل أن تنفذ»، ارتأى أن يمعن في الجريمة بيديه، أن يتلقّى الأوامر مثل القاتل المأجور.
يستقبلك موظّف البنك بضحكة صفراء، وهو قابع وراء مكتبه ممسكاً بالقلم كما يمسك طوني سوبرانو الشوكة. يتعامل طوني سوبرانو مع الشوكة بعصبية تجعلك تعتقد أنه على وشك ارتكاب جريمة قتل، أو أنه يمثّل فعلها. فتراه يكابد وهو يستعملها: يغرس الشوكة في الطبق، ينتشلها بعد أن كانت عالقة، يشدّ على شفتيه، يغرس الشوكة مجدّداً، وبينما يفعل هذا كله، ننتبه إلى أن العرق يسيل من وجهه بغزارة فيما شرايين يديه نافرة. وفي حال كان القلم غائباً، عليك أن لا تنسى، أن أسنان موظف البنك التي تظهر إزاء ضحكته الصفراء جاهزة مروّسة، وهي جاهزة للانقضاض عليك، والتهامك حياً، بمجرد أن تدير ظهرك وترحل.
إن المسؤولية هي إحساس بالرعب عمّا قد يثيره فعل فادح. مثل أن تقول لأحد يمكنك الاعتماد عليّ، ثم تجده يغسّل يديه براءً منك، فيتبدّى لك أن ما كان يعرضه أمامك لم يكن سوى وجبة نيئة، ستقطع لك أنفاسك ثم تتركك جثة ميتة. وماذا بعد؟ ليس بالكثير، كان على أحدٍ أن يقول له شيئاً. على أحد التسلح بعطسة، أو على الأقل، أن يلعن هذا العالم.