لا يمكن الإشارة إلى العالَم اليوم إيجاباً، والقول: هذا هو. فالعالَم في تشوّه - تبدّلٌ وتغيّر - في كلّ ثانيةٍ يعيشها الإنسان فيه، لذا، وبغاية التعريف به والدلالة عليه، يمكن بسهولة الإشارة إليه سلباً: هذا ما لا يجب أن يكونه العالَم. إننا في عالمٍ يعيش على التشوّهات، أياً تكن هذه التشوّهات، التي تحوّله إلى حقيقةٍ وحيدة يعرفها الإنسان عنه: هذا ما لا يجب أن يكون عليه.لا يمكن الإشارة إلى جذور، أو سرديّات، أو هويّات، ما إذا كان كل ما عرفناه، وكلّ ما كنا عليه، وكل اليوتوبيات، تتبدّد أمام الاحتمالات والتغيّرات اللحظويّة، وهذا الذي «ما لا يجب أن يكونه العالَم» شقّ طريقه ليصير ما نعرفه عن العالَم، وليشكّل هُويّته وهُويّتنا في آن معاً. يمكن سَوق جغرافيّتين صغيرتين من أجل ذلك، هما لبنان وسوريا، ويمكن تقليصهما إلى العاصمتين: بيروت ودمشق. تتبدّل سرديّات المدينتين في فترةٍ ضئيلة، ومعها هويّتيهما اليوم: ما لا يجب أن تكونا عليه. ولأنّ الهُويّة تنفتح على المستقبل، تماماً كما تنغرس في الماضي، وتتصل مع الحاضر، يظهر فصام عند الإشارة إلى هُويّة واضحة حيث الحاضر هو صوت الإسعاف، والمستقبل مفتوحٌ على كوارث. لقد تبدّلت اليوتوبيات أيضاً، واكتفى الخيال بأن يتصوّرها مُحافِظةً على الكارثة اليوم، من دون أن تنفتح على كوارث أكبر. لم يعد للخيال القدرة على خلق يوتوبيا كسالف الزمان. أقصى ما تستطيعه اليوتوبيا اليوم هو الحفاظ على الكارثة بحجمها من دون أن تتضخّم، اي بوسعها أن تشكّل هوية، من دون أن تقتل الهُويّة في تحقّقها.

الأصوات كهُويّة
لقد أصبحت الهُويّة منذ زمن عنواناً لفلسفة قائمة عند الفيلسوف الألماني فريدريك شيلنغ حيث يقتصر تعريفه لها، باختصار، على أن يكون الموجود مطابقاً لنفسه، من دون فصام أو انقسام. أي ألا ينقسم المكان على نفسه، وألا يشعر بالمفارقة أو التعالي. يفعل الإنسان ذلك وهو يتحرّك في حيّزٍ مكاني، ينتمي إليه، حيث هويته من هوية المكان، وهوية المكان من هُويته. وطالما عهد أغلب تشوّهات المكان، وأصواته، يستطيع أن يشعر بالقسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال. خلال ذلك، يشعر بالفصام، خصوصاً إذا ما أبقينا على العاصمتين اللتين نتحدّث عنهما: بيروت ودمشق. سوف يشعر إنسانهما بالفصام، وفي محاولته لتحديد الهُوية، ستنقلب الهُوية فيهما إلى اغتراب، لأن صاحبها مدركٌ تماماً أنه «على غير ما هو عليه»: ثمّة شرخٌ في إنسانيته، يتسع وينفتح على شروخٍ أخرى. ثمّة جروحٌ ملتهبة في جوهر كيانه، واستسلامٌ لضربات اليأس والإحباط. وإذا كان يعرف أن الهوية في صلبها هي تعبيرٌ عن الحريّة، بينما يبحث عن حريّته فلا يجدها، فسيغلّفه إحساسٌ أكبر بالفصام.

(رسم: إيليز زخّور)

نسمع صوت الإسعاف كلّما مضت أربع دقائق في بيروت. هذا الصوت الذي أعطى للمكان هُويّته، يُحيل إلى الكارثة، إلى الموت، إلى الشلل والخضوع والتسليم. وصوت دمشق صوتُ بُكاءٍ مشلول. صوتُ صمتٍ مخنوق. صوت قرقعة مِعَدٍ تتلوى من الجوع. صوت وشوشاتٍ داخلية تريد أن تحكي ولا تقوى على ذلك، لا تريد أن تُشهِد أحداً على ذلك، لخوفها، ورعبها، وحرمانها. وقبل ذلك بسنين قليلة جداً كان صوت دمشق وهُويّتها هو صوت مدفع الهاون. القذائف التي تحلّق في سمائها وتعوي. صوت الصافرة. صوت الخطر المحدق بالإنسان، الموت.
كلّ تلك الأصوات (الإسعاف أو صوت الصمت البكّاء) سواء في بيروت أو دمشق تحيلنا إلى مُسمّى واحد، أو هُويّة واحدة، هي الكارثة. لقد غلّفت الكارثة المدينتين منذ سنوات، غيّرت سرديّاتهما وبالتالي هُويّتهما. لقد تبدّلت دمشق من عاصمة الأناقة في الخمسينيات، وعاصمة الثقافة العربية في العقد الأول من الألفيّة، وكذلك فعلت بيروت التي كانت تتصدّر قائمة صحيفة «نيويورك تايمز» للمدن التي ينبغي زيارتها عام 2009، والتي كانت عاصمة الكتاب العالمية في العام نفسه، والمدينة الأكثر حيوية، أو باريس الشرق. دمشق التي نقرأ عنها في تراجم الأعيان من أبناء الزمان بأنّ العلماء ألقوا عصا ترحالهم واستوطنوها ليموتوا فيها بهدوء، وبيروت التي نعرف أنها رئة العالم، وملجأ الهاربين، تغيّرت سرديّاتهما، وهُويّتيهما، من حاضنتَين إلى طاردتَين. هويةُ هي الكارثة بذاتها، ترسّخها وتشدّد عليها أصوات المدينتين كلّ بضع دقائق.

الهُويّة هي الاغتراب/الاغتراب هو الهُويّة
ثمّة فصامٌ مُحقّق إذن: الكارثة هي ما لا يجب أن يكون، وهذا الذي يجب ألّا يكون هو ما يشكل هوية للإنسان وللمكان على السواء. يسيطر الاغتراب على موضوع الهوية، لأن الهوية حالة مثالية، حالة احتمال للحرية على وجه الخصوص إذ أنها ليست ثابتة، أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانيّة حركيّة تتفاعل مع الحريّة وتقوم عليها لأنها إحساس بالذات قبل كلّ شيء، فيما تقوم الحريّة على الهُويّة لأنها تعبيرٌ عنها، كما يقول المفكّر المصري الراحل حسن حنفي.
الهوية إذن، ليست مُعطى جاهز، بل هي إمكانيّة يتم خلقُها، لكن ليس ثمة إمكانيّة للقفز إلى «ما ينبغي أن يكون» في حالة الكارثة، أي في حالتي بيروت ودمشق. في المقابل، هناك ضرورة للخضوع إلى الكارثة، أي تخلٍّ عن الحريّة التي لا سبيل إلى تحقيقها.
يُقذَف بالإنسان في هذه الحالة إلى شرطٍ واحد: فقدان الهُويّة. أن تخرج الهُويّة عن إطار الوجود، وتصبح بديلاً عنه، حيث يُقذَف بالإنسان إلى الاغتراب الذي لا يمكن تبديله أو تحقيق إمكانيّة مغايرة له. لقد تبدّلت السرديّة، فرضت الكارثة نفسها، غلّفت كل شيء بلونها، وصار الهواءُ نَفَسها. أصبحت الهوية خاوية «ممّا ينبغي أن يكون / ما يجب أن يكون» واندمجت بالكارثة، فأخذت منها مضموناً لها، لأنّ مضمونها قد ضاع، تبدّد، لذا يدعها الإنسان في حالة خواء واندماج بما «لا يجب أن يكون» كي لا تضيع لأنه لا يستطيع البقاء بلا هوية. سيقبل الكارثة هُويّةً له، حيث الكارثة هي الاغتراب، هي الظروف التي لا مناص من الخضوع لها، فيصير الاغتراب هو الهوية وتصير الهوية، بدورها، هي الاغتراب.

قبول الكارثة
تخلق الكارثةُ الهوية إذن، وتفرضها، فيقبلها الإنسان وينتمي إليها، كي لا يبقى بهوية فارغة. يقبل الكارثة هُويّةً له لأنّ الهُويّة تطابقٌ مع الحاضر، تفاعلٌ مع اللحظة، حيث اللحظة هي الكارثة. صوتُ الإسعاف، وصوتُ الصمت المخنوق: أصوات الكارثة.
يقبلهما الإنسان هُويّةً له لأن لا خيار له إلا الانتما ولو كان إلى الكارثة، إلى هُويّةٍ مضمونها كابوسيّ، يكتنفه الخواء، يغلّفه اليأس، ويشترط التخلّي عن الحريّة.
ليس ثمّة فروقات في المنتمين: لا أنتلجنسيا، ولا شباب، ولا عوام. قيل من قبل حول الاغتراب السياسي في تنظيرات كارل ماركس «إن الملكيّة هي الاغتراب». لا يختلف الأمر كثيراً هنا، رفض الكارثة هو الاغتراب، هو التجرّد من الهوية. لذا يتم قبولها، والتسليم فيها، بل والمناداة بالانتماء إليها، قبول «غير ما هو عليه»، الإنسان طبعاً، والتسليم فيه. وعوضاً عن «من الضرورة إلى الحريّة» تصير المعادلة «من الحريّة إلى الضرورة»، أي من الإمكانيّة إلى التسليم، من الفاعليّة إلى الكمون واليأس، من الحركة إلى الجمود، من كلّ ما تتحقّق فيه الحياة، إلى كلّ ما تموت فيه.
ورغم أن الكارثة هي ما لا ينبغي أن تكون أي ما لا يجب أن تكون: صوتُ الإسعاف في بيروت، وصوت الصمت المخنوق في دمشق، لكننا نقبلها. هذه هي الهُويّة التي خُلقَت وسلّمنا بها: الكارثة، التي تأصلت بحاضرنا وانقضّت على مستقبلنا.

* كُتِب هذا المقال قبل وقت طويل من وقوع الزلزال المفجع في سوريا وتركيّا (التحرير)