يفصح صوت الكزّ على الأسنان أحوال القلق أكثر من إفصاح لغته عن حال قلقه. يجيء كزّ الصاحي على أسنانه كنطق أخير بعد أن أصابه الجفول فتجمّد مشدوهاً حتى سألناه «ما خطب لسانك، هل قُطعَ؟» وقصدنا لا تدع الكلمات تبتلعك لتغيب من أمامنا وتصير عدماً. الكازّ على أسنانه عاجزٌ عن الكلام لكنّه يرغب به في الوقت عينه. عقدة لسانه مردّها إلى تيه فظيع كالذي يحدث لمخارج الحروف عندما تضل سبيلها. قد يكون الكازّ على أسنانه ذاك الحانق المستشيط غضباً، أو المنتظِر الذي يهز رجليه ويحملق هائماً، وفي أغلب الأحيان، هو الذي لم يستيقظ من كوابيسه حتى أثناء يقظته. يمكن عدّ الكازّ على أسنانه أنه المحروم من الكلام، من كلامه، هو التعيس الساهي، اللامنتبه إلى أن فحيح الصوت الذي يصدره يخلّف وراءه طنيناً.
«حضور الغياب - 2» لأماني حسن (فحم على ورق - 2020)

يبدو الأمر من البداهة مثل عدد أصابع اليد، أو هكذا ارتأيناه أن يكون، بأن الكزّ على الأسنان يعني طحنها أو إطباقها. هو احتكاك عنيف يجري بين الأسنان عند حالات الاضطراب التي تصيب فاعله. هو انقباضٌ في فك الحنك فترة انغلاق الفم يحدث عقب استثارة أو هياج. تلتئم الأسنان إثر الشدّ، ونتيجته، مثل الالتحام الحار التي يحدثه عناق حبيبين بعد مشاجرة عنيفة. عندما تمسّنا لحظات الهشاشة، لا يبقى لواحدنا خيار سوى التكوّر على نفسه. هذا ما يشي به تاريخ الجسد إن أراد إبلاغنا بشيء. تلتحم الأعضاء ببعضها في المواقف التي تأتي على مضض، أو نتحد بأحد، ولو كان هذا الأحدُ منضدة. هناك من يكزّ على أسنانه لأن التململ تعدّى اللسان وأضحى شعوراً بالشلل التام، فيكون الكزّ أشبه باستعارة غرضها تحسّس الأسنان والإحساس بصريرها كشعور وحيد يؤكد للكازّ أنه حيّ. هناك من يضع يده في جيبه عند شعوره بالصقيع، أو عندما يكون وحيداً، فيحاول سراً، بعد تفحصه كلّ الزوايا، التأكد أن أحداً لم يره، ضمّ بطنه بيديه. وهناك من يجمع ذاته ويختبئ تحت الطاولة عندما تُرمى القنبلة لأن الوضعية هذه هي طريقته الوحيدة للنجاة. كلما اختلف التكوّر اختلفت معه دلالته. مثلاً، لحظة الانسحاب من العالم وتجميدها تحت الطاولة، والشدّ على الركبة مع إغماض العينين خوفاً من السقوط الرهيب في كوّة قد تودي على الأرجح إلى جحيم فتحتها القنبلة في الأرض، فيها من التضرع والرجاء أكثر من الحرص على الحياة نفسها، أي حرص المتكوّر على التمسك بها. عندما تشعر بأنك هشّ، تسدل الستائر، تغلق النوافذ وتقفل الأبواب. تتكوّر على نفسك حتى تبدو ككرة قدم. إن لم تغطّ رأسك بشرشف السرير وتحجب وجهك في الوسادة، فلك نصيب من الأماكن التي تعني لك شيئاً. أمكنة تخال أنها تحمل طابعاً سحرياً فتختبئ فيها، وتنغمس بالخلوة فيها إلى حدّ الامّحاء. لكلّ تكوّر دلالة، ولكل متكوّرٍ مكانُه.
المتضرع لأنه خائف من أن يكون الله بمثابة قنبلة، أي المؤمن الذي يُمغّط لحظة الانسحاب من العالم، ويمطّها كالعجين، جاعلاً من تلك اللحظة مداراً أبدياً، لا تعني له الطاولة شيئاً بقدر ما يعني له كرسي الاعتراف بما هو مكان سري يلجأ إليه برجاء الخروج مسحوراً. بدلاً من كزّه على أسنانه، يستعين من أخذ كرسي الاعتراف مكاناً بطلاقة لسانه، من دون أن تعني هذه الطلاقة استرسالاً محكماً أو كلاماً شديد الفصاحة. لا يكوّر المُعترف جسده إنما يحنيه ويعزز التواءه. يدخل المُعترف إلى كرسي الاعتراف كالداخل إلى فسحةٍ مألوفة أو إلى منزل أقاربه. المنطقة صغيرة ضيقة، ثمة شمعة على اليمين وأخرى على اليسار أو لمبة في الوسط تشعّ منها إنارة خافتة، هناك صورة للقدّيسين أو صورتان بالكثير، قاطع في الوسط يفصل الطرفين، وهناك صوت صاخب للسكون. يدنو كرسي الاعتراف من أن يكون "موزاييك" لحالة المعترف. يفضح تماهي الداخلي مع البرّاني حالة الخشوع بشكله الخام. خشوع المعترف مشاع؛ ملك عامٌ، لأن الروح، بحسب هذا اللاهوت، لا تستكين هنا، بل تسكن أيضاً. يكتفي كرسي الاعتراف بالإنصات بل بالإصغاء كذلك، لكن تقشّفه هو ما يودّ أن يكون مسموعاً، ولو بالنظر. جلوس المعترف مقتصراً على لحظات تلاوته فعل الندامة، سرعان ما سيغيّر وضعيته ليجثو على ركبتيه ويركع أرضاً. يأخذ المعترف من كرسي الاعتراف مطهراً أرضياً، محطة محو لخطايا جسيمة اعتقد أنه ارتكبها وها إنّ وطأتها قد أهلكت ضميره. على أن المحو هو نتيجة، تبقى أسباب الخطيئة متعدّدة متنوعة، والجاثم في كرسي الاعتراف يغوص في أعماقه ليسحب لغته من القعر، بحركة مماثلة لطريقة الاستنباط. المسألة شبيهة بفعلة التوليد السقراطية. الأخير رأى أن الحكمة مزروعة في النفس وعلى أحد أن يحثّها بغية إيقاظها. في الاعتراف عودة إلى النقطة الصفر: الإنسان خير لكنه مذنب، وعليه التكفير عن خطاياه دوماً ليبقى خيره مستيقظاً. على هذا النحو، طريقة نظم المعترف لكلامه، أي اعترافاته، تشبه علاقته بالذي يستنجد به. الاعتراف يتشكل عمودياً: من تحت إلى فوق. الخلاص المرجوّ يحل بهذا الشكل أيضاً: يرأف القابع في السماء على المعذّب القاطن في الأرض.
تطوف الخطايا بعد التنقيب عنها. يصعد الاعتراف من وازع باطني إلى فضاءات الخارج. من فم الراكع إلى أذن الأسقف الجالس على كرسيّه ويعلو عنه. يخرج السرّ علناً كإفصاح حميم لا بد من رميه بعيداً أو إلقائه على أحد للتخلص من وخزه. هذا ما يؤطر الاعتراف في خانة المشاركة القاصرة. بعيداً عن كون الاعتراف إجراءً شفهياً يتعين على المعترف به قول الحقيقة، فإن المُستمع هو بمكانة من يقدّم واجب الرثاء في قاعة التعزية، ذلك لأنه يزجّ بأسباب ألم المعترف في الغيب ويتركها برسم الغموض. لكن إن نزعنا طابع القدسية عن هذا الطقس، نستنتج أن هذا هو ما نفعله دوماً منذ إدراكنا قوة الكلام. في ليالٍ كان وجومنا يشير فيها إلى أن الليل طويل جداً ومن المستحيل انقضاؤه، إذ يبدو مماثلاً لوهب القصص بغية المؤانسة أو الفضفضة عقب المسامرة مع نديم، فالاعتراف إفصاح يناقض البوح المندرج على قاعدة التداعي الحر وإلا لكانت كنبة التحليل النفسي مرادفة لكرسيه.
بيد أن الصفح الذي يبتغيه المعترف لا يأتي هباءً. على المعترف أن يكفّر عن ذنوبه بفعلةٍ ترمي إلى أن تكون تعويضاً. يدخل المُعترف إلى كرسي الاعتراف مثل الداخل إلى فسحةٍ مألوفة أو إلى منزل أقاربه. الإنارة هنالك خافتة، فالكلام المُقبل عليه هو، في أصله وجذره، قاتم. إن الخطيئة قرينة العتمة ومن ثم فإن الضوء هو الوعد المؤجل بالنقاء الذي يتيحه التطهّر. يقدم كرسي الاعتراف نفسه على أنه شرط العبور من الحلكة القاتمة إلى النور المجيد.
المعترف طليق اللسان، يلوي جسده ويحنيه، فهو نازح نحو تعذيب ذاته كإعلان للمصالحة ويستحوذ على ملكوت الغفران. مدخله إلى التوبة يقتضي عذاباً مفتعلاً، يكون بإرادته الحرّة، فاعله. ليس الجسد وحده مكاناً للخطيئة، بل الجسد أيضاً وسيلة مباحة للتضحية كي يحوز صاحبه التوبة. منذ الركعة الأولى، يجيز كرسي الاعتراف محاكمة الجسد وإبرام حكم الإعدام بحقه. يتم تحميل الركبتين وزر الخطيئة فيما تتحمل أوتار الحنجرة ثقل التعبير عن الذنب المُلقى على صاحبها. يحوّل كرسي الاعتراف إذاً وجع الروح إلى الجسد ومفاصله، فالركوع ليس دلالة الخشوع أكثر مما هو سجود مكثّف بالندم، فيما حملقة النظر تجاه الأرض مصير يستحقه المذنب.
لا تنجذب الأعين إلى بعضها ولا تلتقي. الأسقف في حجرته، والمعترف أيضاً. كل عين تسلك مسارها المنفرد وكأنّ البراءة تفرض الإقلاع عن النظر لكونه يحمل ثيمة الإغواء. تتلاقى يد الأسقف مع رأس المعترف في تقارب وحيد يجمعهما. الحركة، في صميمها، تصبّ بالرمزية البحتة. تتحول يد الأسقف الى وسيطٍ بين حدّين، فمثلما ينقل الشريط الكهربائي الكهرباء من الفيش إلى التلفاز، تنتقل البركة المقدّسة من يد الكاهن إلى رأس المعترف أثناء تلاوة الأول صلاته.
يُروى عن أحد القدّيسين أنه كان كلما راودته خواطر شنيعة، كان يلقي نفسه حافياً في الشوك بهدف القضاء على ما اعتراه من تصوّرات مريبة. كان الشوك مخرجه الوحيد للهروب من رأسه. للاغتسال من وسخ الخطيئة، من خلال رمي نفسه في التهلكة وغرس جسده في الألم. ملمس الشوك جارح مثل حفيف الركبة عند ملامستها الأرض عقب الركوع. لا أحد يَقعد على كرسي الاعتراف، والجاثم على ركبتيه هو نفسه الجالس عليها. في كتابه «مقام الجلوس في بيت عارف آغا» يميّز رفعت جادرجي بين فعلَي القعود والجلوس. جادرجي يرى أن القعود «حالة وحاجة نفعية وبدنية»، بينما الجلوس، في مفهومه، هو «محصّلة لتفاعل بين المتطلبات البدنية والنفسية التي تتحدد بموجبها هوية الذات حينما يكون في حالة القعود على شيء». فالجلوس على كرسي الاعتراف، إن حدث، لا يختلف عن الركوع على الركبتين. لهذا المكان اعترافه الوحيد الذي ينص على أن الراحة طريق معبّدة بالشوك، وأن الجسد حاجة فائضة يجب هجاؤها. على أن التمظهر غير المباشر لكرسي الاعتراف لا يتجلى بصورة الشوك فحسب، بل بمقدرته أن يكون غير مرئي بتاتاً، محافظاً على مفعولها في الآن عينه. عندما كانت تأتي أفعال الأمر مصحوبة بنبرة صوت تهديدية، في السنوات الأولى للمدرسة، كان ذلك تمهيداً حثيثاً للتعرف عن كثب إلى كرسي الاعتراف بطابع العلماني. إذا ما استبدلنا الأسقف بالمدرس، وأزحنا الاستجواب جانباً، فلن يختلف الموقف كثيراً. عوضاً عن الخطيئة الأصلية هناك خطيئة الغش، التي تحتل المرتبة الأعلى في هرم الخطايا، وتندرج تحتها خطايا غير مميتة؛ أي ذات وطأة أخفّ، مثل التكلم مع صديق أو مضغ العلكة في الصف. هكذا، كان يُنتهك الشخصي والخاص بصيحات حادّة على شاكلة «اجلس في الزاوية» لتلحق بـ «اركع!» (علامة التعجب لم تكن امتثالاً للدهشة، المبرّرة في حفلة الجنون هذه، إنما إشارة مباشرة إلى نبرة صوت الآمر ليكتمل المعنى). إن ترويض الجسد وتدجينه، يعنيان ضبطه ولجمه، بالتالي، التحكم المطلق بصاحبه والقدرة على تسييره. من هنا نفهم أن الفعل الأحب إلى قلب الديكتاتور هو «اعترف». يمكن تعليل ذلك في تعداد كمية الوشاة المتربّصين في كل زاوية من زوايا الطريق. يعترف الوشاة على بعضهم فيكثرون الثرثرة، اعترافاتهم ضمانة دخولهم جنّة الديكتاتور.
يعتقد كاتب هذا النص أن القنبلة بعيدة ولن تسقط هنا، وبالرغم من ذلك، تلتحم أسنانه بعضها ببعض، وهي بكزّها وصريرها تمثّل تكوّراً له، بالطبع، دلالته. عاجز عن الكلام، لكنه راغب به في الوقت عينه. أقول: «ما المانع أن تكون هذه الورقة أمامي كرسي اعتراف؟» لا شيء، إن سحبت الشوكة من حلقي.