تأخذ الجملة الأولى في الكتابة سُمعة تكاد تقترب من الحقيقة، أو تبلغها حتى، على أنها المهمة الأصعب في الكتابة. الجملة الآنفة تلك، كانت بمثابة تقديم أو تمهيد لهذا المقال، ولأسباب عدّة أبرزها يتعلق بالنقص في التعليل، فإنها لم تكن على الإطلاق جملته الأولى. إذا أخذنا في الاعتبار أن علامات التنقيط هي القاعدة الأساسية في البناء والمسوّغ الأساسي لتحديد الجملة، فتكون هذه المرة الثالثة التي أحاول فيها جاهداً كتابة الجملة الأولى هنا. والأمر عصيٌّ كما ترى، أن تجد انطلاقة منسابة تبدأ منها بخفّةٍ دون تكلف، تعطيك الضوء الأخضر فتستفيض وتسترسل. لكن على مرمى الأسلوب المتّبع هذا، بتماهي مضمون القول مع الشكل الذي أتى للتعبير عنه باعتبار أن اللغة هي مرآة لواقع التجربة، فإن المعنى الأساسي الذي يجب أن يُنظر إليه في هذه الأسطر في حال كان مضمراً، هو هذا التبعثر إن لم نقل التخبط والتشويش والارتباك في الإقرار والمباشرة. وهذا مثال واضح وليس بمبهمٍ، يقودنا إلى هذه الخلاصة بسهولة: إن الجملة الأولى في الكتابة، تشبه من حيث إنشائها، عملية الكتابة بذاتها، وما يجعلهما تتقاطعان هو صعوبة البناء المشروطة. لكنّ القول بضرورة النظر إلى الجملة الأولى والكتابة على أنهما متلازمتان تلازماً دقيقاً هو زعمٌ غير دقيق. هي مجرد مسألة شبه ولا تتعداها، تنحصر في الصعوبة، هما قياسان متعادلان في الجهد فحسب. فالجملة الأولى في الكتابة لا تعني بالضرورة أنها البداية التي لولاها لا وجود للمكتوب. فالكتابة أوسع وأعمّ، هي فقاعة تحتوي الجملة الأولى بل تخترعها. خذ ما حدث منذ قليلٍ مثلاً، أعلاه، في هذا النص تحديداً؛ فيه ما يكفي من الإحالة الضمنية التي تدلّ على عدم ارتكازه على الجملة الأولى، ومع ذلك فإن الكتابة ما زالت جارية.
رسم (فرانسوا الدويهي)

أن تبدأ بجملة ما، لا يعني أن هذه الجملة هي المرجعية التي تحدد نصاً. الجملة الأولى ليست بالضرورة بدء الحدث التي تتفرّع منه أحداث أخرى فتكوّن سلسلة متتالية، تشتق وتتسلسل وراءها تباعاً. عندما يتعلق الأمر بالكتابة، فالمعادلات المنطقية ليست في الحسبان، لا تتدخل، إنما تجلس على جنب وتتربص. الجملة الأولى ببساطة، هي خيط بدأت منه وراحت تنسج، لكنها مشروطة بوظيفة يقرّها المعنى المرجوّ الذي يفرضه النص. هي تنصاع للغاية المُقررة مما هو مكتوب، ولا تُشكل مركزه. لذلك هي جزء من الكلّ، على أن هذا الكل ليس تابعاً بالضرورة لها.
يختزل المخرج الفرنسي جان لوك غودارد المسألة ويهدّئ من نبرة الجدل. «القصة تتطلب بداية، وسطاً، ونهاية، لكنها ليست مشروطة بالضرورة بهذا التتابع». على هذا النحو، تقرأ أو تشاهد الأعمال الفنية، تستمتع بها، وعندما تقرر فحص عناصرها تجد دلالتها إما ملتوية ومنزاحة وإما متراصة ومقفلة (وسط، بداية ونهاية). هاك مثلاً. تبدأ رواية «حفلة القنبلة» لكاتبها غراهام غرين على الشكل التالي: «أظن أنني كنت أضمر للدكتور فيشر حقداً فاق حقدي لأي رجل آخر عرفته مثلما فاق حبي لابنته حب أيّ امرأة أخرى عرفتها». جملة غرين الأولى تُشكل اعترافاً ساخناً، فهي أقرب أن تكون في المنتصف، كون تموضع الحبكة عادةً ما يأتي في النصف، وهي كما جاءت بصيغتها التي تشبه التقرير الإخباري في وصف المعطيات وفي الإخبار عنها، لا تدل إطلاقاً على أنها بداية حدثٍ بل تحيلنا إلى حادثة سنكون مقبلين عليها، أو إلى طبيعة بشرية سنكتشفها عن كثب. أما الجملة الأولى في المشهد الأول من مسرحية ماكبث، المفتوحة بشكل أبدي على التأويل، والتي وردت على لسان الساحرة الأولى من الساحرات الثلاث: «متى نلتقي ثانية نحن الثلاث؟ تحت الرعد أم البرق أم المطر؟» فتكاد تكون أقرب إلى النهاية منها إلى البداية. أساساً لقد اعترف ماكبث بنفسه أنها «حكاية يرويها أحمق، ملؤها الصخب والعنف، ولا تنطوي على أي جدوى». وعلى عكس الحمقى، للقديسين ميلٌ إلى الأشكال المُتناغمة. هكذا تأتي الجملة الأولى في إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الله هو الكلمة» لتحمل في طياتها كل البدايات، نصّياً ووجودياً، بلغة الخلق التي يمتهنها الخالق.
مهما أخذت الجملة الأولى من سياقات متنوعة، إلا أنها، وفقاً لصعوبة إنشائها، تساوي بين أي طالب مدرسي مجبر على واجب كتابة فرضه الإنشائي وأحد أهم الروائيين مثل غابرييل ماركيز. فالأخير قد صرّح مرة أن «المقطع الأول مهمة من أصعب المهمات. أمضي أشهراً عديدة حتى أنجز كتابة المقطع الأول، وحينما أحققه ينساب الباقي بسهولة. في المقطع الأول تُحلّ غالبية المشاكل المتعلقة بكتابك». إنها الصعوبة إذاً، أترى؟
إذا كانت الكتابة هي الحضور بوجه الغياب، فالجملة الأولى في الكتابة، مهما تنوّعت وظيفتها، أي إذا كانت بداية، حبكة أو نهاية، إلا أنها حالة الانتقال من الصمت إلى الصوت. هي الجسر الذي يعبر فيه ما هو مفكّر به إلى ما هو مكتوب. وبينما تُعد الكتابة احتمالاً للممكن، تحضر الجملة الأولى لتبدد الزيغ، أو لتفاقمه، فالغموض هو أيضاً سعي حثيث نحو الانكشاف لكنه عاجز عن بلوغه. فأن تكون الجملة الأولى في الكتابة مبتوراً عنها طابع البداية، هو من أعراض الكتابة ذاتها، وشكل من أشكال العيش أيضاً. أما إذا جاءت الجملة الأولى كبداية كل حدثٍ وحادثٍ، كمطرح إسناد، فمن الأجدى بها أن تكون، بكلمات الأديبة الأفريقية جومبا لاهيري «مثل المصافحة أو ربما عناقاً». أن تقول أشياء لا يعرفها القارئ، وإن عرفها فيسمعها بطريقة لم يألفها حتى لا يستطيع منها فكاكاً.
ولكن ماذا عن الكاتب عندما يخرج عن نصه ويصبح كتلميذ في الصف الابتدائي، عاجزاً عن رسم الشخوص والسياق؟ ماذا عن شخصه هو، وسياقه هو؟ كيف ترِد جملته الأولى في الحياة؟ تبدو المسألة، للوهلة الأولى، اختباراً وجودياً شاقاً.
تختلف وجهات النظر كثيراً حول مسائل كثيرة، ما عدا واحدة تتعلق بحقيقة هذه البلاد. ليس هناك تاريخ موحد يمكن الاتّكاء عليه، وبالتالي فالجملة الأولى هنا منزوع عنها طابع البداية. هذا شيء عادي. حبكتنا هي أن البداية، بجوهرها، مفقودة هنا. الحبكة، كما يبدو، هي البداية عينها، وبالنحو نفسه التي عرّف الفلاسفة الوجوديون بها حياة الكائن «إننا مقذوفون في العالم». إذا كان الحديث يدور عن الحاضر الآن، فلنا عنوان مثير من هذا الفصل الذي نعيشه\نقرأه: لقد بتنا في الجحيم، هذا بعد أن كنا «ذاهبين إلى الجحيم» كما سبق وورد في تصريح جمهوري. في جحيم دانتي يُستهل النشيد الأول بالسطر التالي: «في منتصف طريق حياتنا، وجدت نفسي في غابة مظلمة، إذ ضللت سواء السبيل». إذا ما قارنّا هذا التصوير الديستوبي الذي أقامه دانتي مع سياقنا هذا، يغدو دانتي، بالنسبة إلينا، الآن وهنا، كالخارج للتوّ من منزله يتمتم هاذراً وهو يمشي على الرصيف، بهذيان مدجّج يسبق خطوات السائر بأميالٍ. تبدو جملة دانتي إشهاراً بالحقيقة، وتمثيلاً فاقعاً للغابة المظلمة التي نعيش داخلها. استهلاله المجرد من التنميق البلاغي والأقرب إلى الكلام الشفهي اليوم رائج كالجائحة حيث لا يخلو حائط منزل كتوم لم يسمع مرثيات العمر والنماء حيال الوقت المبدّد من أهله. عندما تكون في الجحيم، لن تميّز بين الصباح والليل، كما أنك لن تتذكر نقطة البداية وبالطبع، لن تنتظر النهاية. حيّز دائري مثل دوامة، وأنت تركض في وسطها. في منتصف منفصل عمّا قبله، مفصول عمّا بعده.
لا تساوي الجملة الأولى بين طالب مدرسي وواحد من ألمع الروائيين فحسب. فخارج متن النص، أي في الحياة التي اختارت لروّادها، كتاباً أو قرّاء، أن يكونوا فيها منذ لحظة الولادة، بسياقهم في الوسط، ترسي المكابدة الوجودية عدالة تطاول كلاً من الكاتب والقارئ بمهمة تقوم على بحث محموم عن جملتهما الأولى. لا هذا مات، ولا ذلك فَرض سلطة تأويله عليه. تغدو الكتابة، من الجحيم فعلاً عبثياً تُضاهي العيش فيه، ممارسة لا يفصلها عن الجنون سوى التهمة. بيد أن الكاتب هو عابر سبيل، ونصّه هو الرصيف، والكاتب يتمتم هاذراً وهو يخط مسار جملهِ، لكنّ الكتابة طقسٌ حميم يقوم على التواري والتخفي، بعكس العيش الذي يحكمه التحديق.
- ما هي الجملة الأولى في بلادك يا ترى؟
- مفقودة. يحكمها التلعثم والإخفاق، تفتقد اللزوجة والتثبيط والمعنى. عد إلى مطلع هذا النص وهذا كفيل لترى.
- لماذا؟
- بسبب تناص تاريخها مع حاضرها.
-هممم، وما العمل؟
-علينا أن نخترعها. على أن تكون نهايةً وبداية معاً. يعني قطيعة مع اليوم، مهمومة في بحثها عن اليوم غداً.