كان يمكن لهذا النصّ ألّا يكون موجوداً. ليس هذا نوعاً من التخلّي عنه، أو محاولة لاستجداء رأفة القارئ وتسامحه حيال أي تعثّر قد يرد في سياقه. لولا ضرورة الكتابة المحكومة بملفّ العدد نفسه، والذي يحمل عنوان«الكتابة»، لكان كل ما سيرد لاحقاً لاقى مصير الصمت، وبقي غافلاً عن أي احتمالية للتشكّل. ليس هناك أكثر إغراء من فكرة إلغائه بضربة واحدة هكذا منذ مطلعه، لكن، إن فعلنا، سنجابه بتهمة الذات التدميرية. لهذا سنستعين بنفي رونيه ماغريت المخاتل لنفض اليدين من المكتوب ولتبريره في الوقت نفسه: هذا ليس كلاماً/ نصّاً/ لغةً، أيما كان. فليعتبره من يقع تحت عينيه كلاماً أبيض وليتوقّف عن المتابعة هنا.
رسم (فرانسوا الدويهي)

قد يُعتبر مواربةً ادعاؤنا بأننا نطمح إلى قول ساكت، طالما أن القرار بالكتابة هنا قد اتُخِذَ مسبقاً. ببساطة كان يمكن التنصّل من المهمّة. هذا وارد، لا بل صائب. غير أن هناك ما يبرّر هذه الكتابة المتردّدة، بالاعتماد على الرابط الإشكالي الصلب ما بين الصمت والقول، وهي العلاقة التي ينطوي عليها مصطلحاً مركّباً مثل جماليّة البشاعة الذي ابتكره الفيلسوف الألماني كارل روسينكرانتز في كتابه «استطيقيا القبح». وحين نوغل أكثر في العلاقة بينهما، أي بين الصمت والمنطوق، سيكون الصمت حينها، إذا ما جوبه بالمنطوق، مرادفاً للموت نفسه.
لو كان للكلمات التالية أن تمحو نفسها لفعَلَت. لا تكفّ هذه العبارة عن التردّد في رأسي فيما أكتب، وفيما أعجز عن المحو، غير أنني أذكّر نفسي، قبل يومين من موعد التسليم الأوّل (الذي تمّ اجتيازه من دون تأنيب ضمير)، بأن على هذا المقال أن يملأ مساحة محدّدة من صفحة ما دخل العدد الأوّل من الملحق. ولتوضيح ذلك مسبقاً، فإن التدوين هنا لا يسعى إلى التخلّص من الصمت تماماً، بقدر ما إنه يبتغي أن يختبر المسافة الفاصلة بينها وبين السكوت. استخدمنا كلمة السكوت تالياً، لأنها ربّما تعطي انطباعاً أخفّ وطأة من الذي تتركه مفردة الصّمت. الصمت صمت. لا بدّ له أن يكون قطعياً وحاسماً، فيما يحتمل السكوت أن يكون غياباً مؤقّتاً للغة، لذات تطمح إلى القول سرّاً، أو تنتظر أكثر الدعوات وجلاً للتخلي عن موقفها المتردّد. السكوت لا يحتمل نفسه طويلاً، إنه مجرّد وقفة قصيرة لاقتناص قول صائب.
الصمت هدّام في المقابل. يتداعى ككتلة مروّسة على اللسان لتجرحه وتعيق لفظه ولتخرس كلّ رغبة في القول. سنعرّج لاحقاً على الأسباب الداعية إلى الصمت، بقدر ما تتسع المساحة والجلد، أوّلها الرغبة في القفز من قطار القول السريع، بضوضائه، وشعور الذات الطاغي بالغثيان، والذي سيقودها إلى الخرس أو التقيّؤ غالباً.
يواصل السكوت هذره إذا وجد قارئاً أو أذناً أم لم يجد. يواصل لغوه في الرأس فيما يظلّ اللسان معقوداً، والحنجرة معطّلة. في هذه الحالة الحائرة ما بين القول والتراجع عنه، يقع فعل كتابة اليوميات والمذكّرات، بتقديمها أنا الكاتب التي تكون متوارية خلف أبطال وشخصيات مؤلّفاته الأخرى في العادة. مثل السكوت، تحتفظ كتابة اليوميات بالتردّد والانكماش، وبانعدام الرغبة في الإفصاح إلا على ورق لا يُرى، رغم كونها تحمل احتماليّة النشر بعلم كاتبها لاحقاً. يُتاح للكاتب فيها أن يستبدل وجوده بوجود فجّ إذا ما قورن بالأنماط الأخرى، وذلك بوصف اليوميات حواراً داخليا أكثر منه برّانياً، فاحتمالية أن الكاتب لا يقشع الآخر/ القارئ تكون سابقة لاحتماليّة أن يقشعه، أو حتى يضربُ حساباً لوجوده.
تنقل الكاتبة الأميركيّة أناييس نِن في يوميّاتها، تعليقاً لعشيقها الكاتب هنري ميللر على عملية الكتابة وفق الطلب واصفاً إيّاها بـ «الإخصاء». فلنتوقّف عند هذا الوصف، ولندع الأمر يحدث عكسيّاً، أي في الحالة التي لا يكون هناك من ينتظر القول: كيف سيجد الكاتب حينئذ الدافع لتدوين أيّام، يشكّل فعل تدوينها بذاته رثاء لها، كما الحال مع لحظة التقاط الصور الفوتوغرافيّة التي تميت الوجه ما إن تقبض عليه؟ أي طاقة يستدعيها هذا الفعل حين يكون ذلك متعلّقاً بمطاردة الذات في نهارات فارغة، رتيبة، فيما النافذة مغلقة أيضاً، على خارج لا يحدث فيه شيئاً بالأساس؟ يتخلّص الكاتب في اليوميات من بعض هواجس الكتابة، من قلق ما سيقال وكيف يجب أن يقال. في المقابل، يجازف في ملاقاة الاحتمالات البائسة إيّاها بأن الحياة بمجملها قد لا تكون أوسع من تلك الأوراق المهملة، وبأن المحاولات الفاشلة للتدوين في دفتر يوميات ربما هي تمرين على إحداث الحياة، لكنها تنتهي بأن تكون تأكيداً لمرور أيام الأسبوع من دون أن يجد فيها كاتبها أيّ تأكيد لحضوره. لن تعدو اليوميات حينئذ كونها تعويضاً عما لا يحدث في يوم باهت، فيما الكلمات هي ما يصنع تدرّجاته وساعاته ونوره وعتمته. هل من مفرّ؟ عليك بالمواصلة، فقد تضيّع أيّامك هباء بالشرود، وتصاب بالذهول حين تعي مرورها. لدى وقوعه على يوميّاته بعد سنوات طويلة من كتابتها، حين كان لا يزال في السادسة عشر من عمره، يتنبّه ياسوناري كاواباتا إلى أنه لم يكن يملك أي ذكريات عن تلك الحياة اليومية التي دوّنها في دفتره، متسائلاً بمرارة: «أين ذهبت تلك الأيام إذا لم أكن أتذكّرها؟ أين اختفت؟». سيكون من الطموح الساذج الاعتقاد بإمكانية مطاردة ذكريات متوارية لدى كتابتها، فقد تنتهي بشعور عارم بالاغتراب، كما لو أن قراءتها بعد عمر مديد، تتحوّل، بفضل السهو، إلى قراءة لعمر غيرك.
غير تلك الحاجة المخفقة مسبقاً، إلى القبض على الزمن، نجد إجابة أخرى للدافع وراء كتابة اليوميات عند أناييس نِن التي كانت تشحن هذا الفعل من فشل متجذّر في التواصل مع الآخر: «كل الأمراض الأخرى تبقى قابلة للفهم لدى مشاركتها مع الآخرين. لكن ليس هذا. إنه غامض وفردي، ولا يملك القدرة على التأثير في الآخر، تماماً كمحاولة الصراخ من حنجرة خرساء... القلق هو امرأة تجعر بلا صوت من قلب الكابوس». هذا ما تكتبه في أحد أيامها، كتمرين لإخراس صرخة المرأة الفارغة. تعرف نِن أن الصمت زلق، وأن القلق حفرة تبتلع كل ما يمرّ أمامها. لهذا، ربمّا، واظبت على كتابة يومياتها طوال سنوات، منذ أن كانت في الحادية عشرة من عمرها. دوّنت ما يفوق عن الـ 150 دفتر، نُشِرَت بستة أجزاء. لمن كانت تكتب؟ ما يعنينا كقرّاء، أن هذا التدفّق في سرد أيّام وعلاقات وهواجس وأفكار فاض بسبب إخفاق أوّلي في التواصل مع والدها. في مطلع اليوميات، تتوجّه إلى والدها برسالة تطالبه بعودته إلى عائلته بعدما كان قد تركها، لكن المذكرات التي تبدأ برسالة إلى الآخر/ الأب، سرعان ما تتحوّل، لدى فشلها في استجداء أيّ ردٍّ، نحو الذات ووصفها في الصفحات التالية، منها ما تعلنه نِن بقولها بأن جذر كلّ كتابتها بما فيها اليوميات يعود إلى «أنني فقدت الرغبة في مشاركة الآخرين في وقت مبكر من العمر، خصوصاً وفقاً للقواعد التي أرساها وكرّسها المجتمع»، مضيفة أن كتابة كهذه خصوصاً في اليوميات هي حاجة إلى الاحتجاج المتواصل.
هذا ما تقدّمه اليوميات. يكون الكاتب فيها خالي الوفاض من أي التزامات أو توقّعات، أو قواعد اجتماعية من تلك التي تستحضرها جوديث باتلر في «الذات تصف نفسها». ففي حين نحن من نقوم بتقديم توصيفنا الذاتي لأنفسنا، تشير باتلر إلى أن المصطلحات التي نستخدمها ليست من صناعتنا، إنما هي اجتماعية في طبيعتها. وفي هذا استلاب آخر لسلطتنا على توصيف ذواتنا. يضاف هذا الاستلاب إلى استلاب آخر للذات، حين تشرع الذات في مساءلة نفسها وتقديم الوصف نتيجة استدعائها ككائن يعدّ مسؤولاً أمام نظام عدالة وعقاب ما، وفق ما تنقل باتلر عن نيتشه في كتابه «جينيالوجيا الأخلاق». تقديم الذات نزولاً عند طلب نظام العدالة والعقاب، يُعادل إلى حدّ ما، الكتابة كتلبية لطلب ما، وفق هنري ميللر. إلا أن من يمضي في وصف ذاته في اليوميات، بفعل متواصل ومتدفّق، لا يحتاج إلى دعوة أو دفاع أو تبرير. تجازف الذات في اليوميّات في الخروج عن المكوّن الاجتماعي بشكلّ عام، وعن الأنماط الأدبيّة المكرّسة كالشعر والمسرح والرواية... مع هذا، لا بدّ من اللجوء إلى اللغة والكلام الذي يعدّ الطريقة الأولى للتواصل مع الذات واكتشافها. وهنا يكمن تحدّي كتابة اليوميات بوصفها مساحة آمنة ومتسيّبة في الوقت نفسه تفرض على الكاتب تحديداً البحث والتنقيب عن المصطلحات والمفردات خارج القواعد المكرّسة. بالنسبة إلى نن التي كسّرت في يومياتها أطراً لا تحصى كامرأة في وصف علاقات ورغبات، فإن عملية تحرير النصوص تكتم وتؤدّب أكثر ممّا تفصح، بانتقائها المصطلحات وضبطها الصياغة، لجعل المكتوب مقبولاً لدى القارئ. يغيب فعل التحرير غالباً عن معظم اليوميات (إلا في حالة موت الكاتب وتولّي الناشر والمقرّبين أمر نشرها، أو في حال تراجع الكاتب عن أيام وذكريات قبل النشر)، إلا أن الأمر يأخذ بعداً جذرياً بالنسبة إلى نن التي تعتبر أن الكتابة الجيّدة، سواء أكانت تنتمي إلى نمط اليوميات أو لا، هي تلك المتدفّقة، الفظّة، المتلعثمة، الصامتة، الناجية من التحرير والتعديل المتواصلين. ترنو نِن في هذا التمرين الشاق، إلى التقاط الحركة المتردّدة للكتابة نفسها، والتي تشبه التأتأة في تلفّظ الكلمات كمحاولات ملحّة من أجل القول الصريح بما فيه من سبل بضّة تكشف الذات بانكساراتها قبل استقامتها، بهاوياتها التي تهدّد الكاتب بالوقوع على الدوام لدى تدوين يومياته. والقارئ اللاهث خلف قراءة اليوميات، على رتابتها أحياناً، يستميت من أجل التلصص على هذه الانكسارات، أي رؤية الكاتب المتواري غالباً خلف مؤلفاته الأخرى عارياً هذه المرّة. هذا الدافع الأهمّ الذي تعزيه سوزان سونتاغ إلى رغبة القارئ الحديث بقراءة يوميات الأدباء. رؤية الكاتب عارياً يرتبط بالتعطش الحديث لعلم النفس، ما تعتبره الناقدة الأميركية أقوى تركة لتقليد الاستبطان المسيحي، وللأضحية البشريّة في عصور الإيمان الديني الغابرة، إذ يتساوى فيه اكتشاف الذات باكتشاف العذاب نفسه. يتساوى العريّ بالعذاب، مع الانكسار، مع الإفصاح الحر، ومع الموت أحياناً بوصفه انكسار إلى حدّ التلاشي. الدافع نفسه يحضر في اللهاث خلف سير المنتحرين، الكتاب منهم تحديداً، تماماً كالانقياد الممسوس للتنقيب في سيرة عالم النفس اللبناني رالف رزق الله ومقالاته وشوارعه، خصوصاً لدى الانتهاء من قراءة رواية «رالف رزق الله في المرآة» لربيع جابر. في أيّامه الأخيرة، لم ينجُ رزق الله من ثنائية الصمت والقول. والأرجح أن الصمت فاق قدرة أذنيه على التحمّل.
وجدت أناييس نن في كتابة اليوميات سبيلاً لقتل صرخة القلق الجوفاء، أما رالف رزق الله فلم يمهل اللغة، لذلك لن نعثر على يومياته. كتب في إحدى آخر مقالاته المنشورة في «ملحق النهار» (كما نقلها جابر) بأن الموت هو السبيل الوحيد للتخلّص من القلق: «إن الموت هو الحالة التي يتخلّص فيها الكائن من التوتّر تماماً».
أما الصمت فهو موت يافع.
بعد أربعين يوماً من انتحاره وجدوا على كومبيوتر رزق الله مقالاً غير منشور، يكتب فيه: «لم تصغِ أنت الذي كتبت، لأصداء الصوت الذي يدوّي في فراغك.... ما عليك سوى أن تجلس.../ التزم الصمت. إيّاك أن تكتب.../ إذ أن الكتابة كما صرّحت، لا تنبئ.../ قال العرب: البلاغة في الإيجاز، والأصحّ في معتقدي أن البلاغة هي الصمت». لم يُمهِل رزق الله اللغة. قفزت بلاغته عن مرحلة الإيجاز قفزة جامحة أودت بجسده للارتطام بالصخور المحاذية لصخرة الروشة.