في زمن الأزمات، يُفترض أن تتحوّل فترة الأعياد إلى فرصة لإعادة النظر في أخلاقياتنا، ولا سيما تلك المتعلقة بتبادل المعايدات والهدايا الفعلية أو الرمزية. وبالمناسبة، ليست الأخلاقيات في التماهي مع برامج الإشفاق التي تحتل الشاشات. وإنما العيش بتوازن وانسجام مع الطبيعة والآخر، واحترام قوانين الطبيعة وحدود النوع.تفرض علينا الويلات البيئية والصحية والاقتصادية المستجدّة البحث عن قواعد جديدة للأخلاق، تتجاوز غرائز الشفقة وإنكار الذات والتضحية بالنفس والشهادة للحق ... نحو تجاوز الأخلاق «الإنسانية»، إلى تلك الحيوية التي نتشارك فيها مع بقية الكائنات في وحدة الحياة والمصير. ويمكن الزعم بأننا إذا تبنّينا الأخلاق التي تحفظ حقوق هذه الكائنات (غير الإنسانية) بالحياة، لن يموت أحد (من الأحياء) جوعاً، مهما اشتدت الأزمات. وبالمناسبة أيضاً، فإن التكيّف مع ما تفرضه الأزمات لا يعني الاحتيال على الوقائع. التكيّف خيار مشروع عندما يصبح قاهراً ومن أجل البقاء. بينما الاحتيال فعل إرادي من أجل الكسب السريع من دون وجه حق… وهو كلما تمادى تسبّب بكوارث.
تبنّي أخلاقيات موسّعة، تشمل بقية الكائنات وليس النوع الإنساني وحده، ليس أفكاراً أو قيماً منزلَة من أي مكان ولا يُعتبر ذلك أعمالاً مفارقة ومنزّهة ومتعالية. إنها أخلاقيات فرضتها الكوارث من تحت، ولا سيما تلك التي يتحمّل مسؤوليتها الإنسان بسبب نشاطه الحضاري. فكوارث تغيّر المناخ وانقراض الأنواع وتدهور النظم الإيكولوجية، والكوارث الصحية وخروج بعض الفيروسات عن السيطرة، وكوارث الحروب والهجرات والإبادات الجماعية… كلها من صنع الإنسان وتصنّف «إنسانية»، بعكس تلك الطبيعية كالهزات الأرضية والبراكين… على سبيل المثال. الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان باتت لا تُعدّ ولا تحصى، ولم يعد معروفاً من يؤثر في من، ومن السبب والمسبّب. ويبدو أنه لم يعد مهماً البحث عن الأصل أو عن البدايات في ظل هذا التداخل بين الأنواع، لا بل بعد تجاوز النوع الإنساني لقوانين الطبيعة وحدود الأنواع والتلاعب في جيناتها. كما باتت العلاقة بين الإنسان وبقية الكائنات أكثر وضوحاً في تداخلاتها أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما حول أثر الإنسان على الطبيعة في نشاطه الاستثماري وأثر الطبيعة على الإنسان في مظاهرها المناخية المتطرفة والقاتلة. من هنا بات البحث عن أخلاق جديدة تتخطى النوع الإنساني ملحّاً لا بل ضرورياً. وهذه أول نتيجة يمكن تسجيلها لانطلاق النقاش نحو البحث عن طبيعة الأخلاق الجديدة المنشودة.
وبما أن المشكلات التي تحدثنا عنها باتت خارج الحدود، حدود الأوطان والدول… وحدود الأنواع، يفترض أن نستنتج من ذلك ميزة ثانية للأخلاقيات الجديدة، وهي أن تكون عالمية فعلاً، تتماهى مع طبيعة المشكلات نفسها. وكأننا نبحث عن «عقد اجتماعي» كوني جديد، على قاعدة أننا بتنا أمام أمراض مشتركة وأزمات مشتركة وكوكب مشترك ومصير مشترك.
في الأزمات الكبرى، في التاريخ وما قبله، غالباً ما كانت الشعوب تلجأ إلى الأسطورة للمساعدة في البحث عن معنى الأحداث والحياة عموماً… والمصير. فشلت الأساطير القديمة في الاستمرار كما هي، ربما لأنها قدّمت معلومات عن أصل الكون، وابتعدت عن تفسير الحياة اليومية، ولم تخبر الناس شيئاً عن طبيعتهم البشرية… ولأنها لم تساعدهم في حل مشاكلهم الاعتيادية، لا تلك الدائمة أو المستجدّة. هذا في العالم ما قبل «العلمي» وما قبل العالمي، أي قبل أن يصبح العالم عالمياً بفضل تطور علومه. وربما يكون، بسبب بحث الإنسان الدائم عن المعنى الجديد، حصل التجريد وخرج الإنسان من عالم الأسطورة إلى عالم الماورائيات. وبعد فشل هذا العالم أيضاً وعدم صموده أمام الاجتهادات العقلانية، انتقل إلى مرحلة جديدة وُصفت بالوضعية، أي تلك المرحلة التي خلقها تطور العلوم الوضعية وفكرة الفرد القادر المستقل على ابتداع الحقيقة بنفسه وإنقاذ نفسه بالسيطرة عليها وعلى الطبيعة ومقدّراتها. بذلك حصل الانتقال من زمن الأسطورة إلى السماء، أو إلى التوحيد للآلهة، إلى تأليه الإنسان الفرد الذي عاد ودمّر كل من حوله وتسبّب بكوارث تهدد وجوده ونوعه أيضاً.
أما اليوم، فإن الرهان على تقدم العلوم من جديد لإنقاذ البشرية مما تسببت به علومها وتقدمها، أمر لا يخلو من الأسطورة أيضاً! يتوهم العالم اليوم أن بإمكان حصول تطور علمي «سريع» معاكس للذي بدأ منذ الثورة الصناعية واستهلك بسرعة موارد غير متجددة عمرها ملايين السنين (مثل الوقود الأحفوري) في أقل من 200 سنة، أن ينتقل «بسرعة» إلى بديل تكنولوجي منقذ! وهو لم يقدّر معنى وخطورة السرعة التي نما واستثمر واستهلك فيها، وأنها هي نفسها (السرعة) التي ينحدر فيها نحو الهاوية، مسرّعاً أكثر وأكثر انتقال الأمراض وسرعة ارتفاع حرارة الأرض وانقراض الأنواع على المستوى العالمي!
لا تُقيّم الأساطير بمدى واقعيتها ولا بكونها تزودنا بمعلومات وحقائق، بل بمدى تأثيرها على المعنى في حياتنا. وهي تفشل إذا لم تتكيّف وتزودنا بمعنى ما جديد لحياتنا.
يصل الإنسان ما بعد الكوارث، عاجلاً أم آجلاً، إلى استنتاجات تتطلب تغييراً جذرياً في رؤيته إلى الحياة العامة وإلى حياته الخاصة، التي لم تعد خاصة، بمجرد أنها باتت مرتبطة بأزمات الكوكب الإنسانية. تفضي هذه الاستنتاجات إلى اعتبار المواطن، أينما كان، مواطناً في هذا الكوكب بمجرد أنه مؤثر ومتأثّر بكل ما يحصل في كوكبنا الصغير الهشّ. هذا التصور للمواطنة الكونية، بحد ذاته، يُعتبر مهدداً لكل القيم السابقة التي عرفتها البشرية، قيم الجماعات، الصغيرة منها والكبيرة.
قد تشترك الأخلاق الجديدة ما بعد الكوارث عن الأخلاق الدينية بأنها أخلاق الخوف من الموت. ولكن يفترض أن تكون هناك إضافة، هي بمثابة العودة إلى الوراء، إلى حب الحياة كما هي، واعتبار الموت جزءاً من دورة الحياة. حب الحياة بذاتها وليس حب السيطرة عليها. واحترام التنوع والتعددية فيها بدل محاولة التوحيد القسرية.
قد لا تحتاج البشرية إلى خلق أخلاق جديدة منقذة بالكامل. قد تحتاج إلى «تحويجة» قيم وعادات وتقاليد منتقاة من أكثر من ثقافة وجماعة إنسانية. ولدى العرب ميزتا الكسل وحب السرد، وهما قد تكونان مفيدتين لإبطاء الاتجاه العالمي نحو الهاوية.