لم يُطرح وضع استراتيجية للتنمية المستدامة لوزارة البيئة إلا في نهاية عهد الوزير أكرم شهيب، ومع تسلم الوزير محمد المشنوق للوزارة. ورغم أن ملف إدارة النفايات انفجر في وجه الأخير في الشارع، إلا أنه كان أكثر وزراء البيئة حماسة واشتغل على تشكيل لجنة من الوزارات المعنية لوضع استراتيجية أعمق من «الخطة الشاملة لترتيب الأراضي» التي وضعها مجلس الإنماء والإعمار، وهو غير ذي اختصاص.هكذا بقي لبنان، منذ نهاية الحرب الأهلية، من دون خطة شاملة للتنمية المستدامة وخطط قطاعية لكل وزارة. وبدا ذلك وكأنه كان متعمّداً للإفساح في المجال أمام تنفيذ مشاريع كبرى، تنطوي على صفقات دسمة، وتنعكس هدراً للمال العام وزيادة في الديون… حتى وصلنا إلى الكارثة التي نشهدها اليوم.
سبع نقاط رئيسية حدّدها وزير البيئة الجديد ناصر ياسين برنامجاً لعمله تتمحور حول وضع استراتيجية للتنمية المستدامة، حماية مصادر المياه انطلاقاً من إعادة تقييم الخطط، وضع استراتيجية وطنية لإدارة النفايات الصلبة إدارةً متكاملةً، واستراتيجية لإدارة ملف المقالع والكسارات والمرامل وشركات الإسمنت، وإعادة النظر في قانون الصيد البري، وإدارة الغابات وحمايتها من الحرائق، والالتزام باتفاقيات المناخ ومكافحة تلوث الهواء ودعم الطاقة المتجددة وتوطينها. فما هي إشكاليات هذا البرنامج الطموح وما هي العوائق وحظوظ النجاح؟

الغابات والتنوع البيولوجي
في موضوع حماية الغابات والتنوع البيولوجي والأنواع وإعادة النظر بالسماح بالصيد ومكافحة الحرائق الذي تتقاطع فيه وزارة البيئة مع وزارة الزراعة بشكل رئيسي، كما في حال الولوج إلى الزراعات العضوية وتشجيعها وتخفيف استخدام الكيميائيات الملوثة… لن يحصل تضارب مصالح كبير إلا في حالات السماح بقطع الأشجار من أجل المشاريع الكبيرة والمتوسطة، أو في إدارة عمليات إعادة التشجير كما حصل سابقاً. وهذه يمكن التفاهم حولها من ضمن تحديد المسؤوليات ضمن الاستراتيجية الشاملة أو في ورقة تفاهم بينهما.

المقالع والكسارات
أما العلاقة المتوقع أن تكون صعبة فهي مع وزارتي الداخلية والطاقة والمياه. مع الداخلية في ملف المقالع والكسارات والمرامل، إذ لا تزال المراسيم التنظيمية ذات الصلة غير كافية لناحية تصنيف الأعمال وعدم ترك مجال للاجتهادات، كمنح تراخيص استصلاح أرض أو شق طريق ونقل ردميات ليتحول إلى إنشاء مرملة ونقل رمل على سبيل المثال. ولعل النقص الرئيسي في هذا الملف ناجم عن عدم وجود قانون بعد ينظم هذا الملف ولا استراتيجية تحدد الحاجات الحقيقية من هذا القطاع. ومجرد طرح «تحديد الحاجات الحقيقية» يعني التصادم مع كثير من القوى التي تعتبر هذا القطاع مزراباً من الذهب.
للمرة الأولى، يقترح وزير البيئة وضع استراتيجية متكاملة لإدارة ملف المقالع والكسارات والمرامل وشركات الإسمنت، ومن ضمنها وضع قانون تنظيمي في ضوء الحاجات الوطنية، وتحديد عائداته الحقيقية واستيفائها لصالح الخزينة وتغريم المُشَوِّهين وفتح باب الاستيراد… وقد دمجها بوضع خططٍ للإدارة المتكاملة والدائمة للردميات والتوفير في عمل المقالع وتشويهاتها، إضافة إلى العمل السريع على إدارة سليمة لتلك الردميات والمخلَّفات الخطرة وغير الخطرة الناجمة عن انفجار مرفأ بيروت.
هذا الموضوع ينسحب أيضاً على ملف أساسي مرتبط به، هو ملف تنظيم عمل شركات الإسمنت التي تحتاج إلى المقالع الخاضعة في إدارتها للمجلس الوطني للمقالع الذي يرأسه وزير البيئة. وقد انتهت المهلة المعطاة لعمل مقالع هذه الشركات، من دون أن يبت بها الوزير السابق، فيما أضعفت الأزمة الاقتصادية خيار فتح باب الاستيراد، الذي لم تعرف الحكومات والإدارات السابقة الاستفادة منه لتحسين شروط التفاوض مع الشركات وحماية أموال الخزينة والطبيعة في آن.

حماية مصادر المياه
أما إعادة تقييم خطط المياه من خلفية حماية المصادر، فتعني في الجوهر مراجعة شاملة لخطط السدود السطحية، والتي يفترض أن تنطلق من حماية المصادر ومن رؤية شاملة تقوم أولاً على ضبط السرقة والهدر وتنتهي بضبط الاستخدام وترشيده في مختلف القطاعات، مروراً بإعادة النظر بما يسمى «الحقوق المكتسبة على المياه»، والتي سمحت بالإتجار بهذه المادة الحيوية وحرمان الخزينة من مداخيل مهمة. وهذا يعني صراعاً مع شركات استشارية وهندسية وإنشائية معنية بالسدود من جهة، ومع شركات المياه المعبأة وتجارة السيترنات من جهة أخرى… ومع من وراء هؤلاء وأولئك.

تغير المناخ والطاقة المتجددة
كما أن موضوع تغير المناخ ودعم الطاقة المتجددة فهو يعني، أيضاً، نزاعاً مع وزارة الطاقة التي لم تعترف سابقاً لـ«البيئة» بهذا الدور الكبير، رغم أن قانون إنشاء وزارة البيئة ومرسوم تنظيم الوحدات التابعة لها يمنح في المادتين 24 و25 دائرة نوعية الهواء ودائرة الأنظمة البيئية المتكاملة صلاحية إعداد الخطط والبرامج التنظيمية والتنفيذية لإدارة هذه الأنظمة إضافة إلى مهمة الرصد (الانبعاثات)، والعمل على نقل التكنولوجيا واعتماد برامج الإنتاج الأنظف وعلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة والحد من استعمال مصادر الطاقة الملوثة وغير المتجددة… ومراقبة هيئات القطاعين العام والخاص للتأكد من التزامها بحسن تطبيق المعايير المتعلقة بالإدارة البيئية المتكاملة. فيما الالتزام باتفاقيات المناخ، لا سيما اتفاقية باريس، فيحتم على لبنان تغيير كثير من سياساته عبر إعادة الاعتبار لمشاريع إنتاج نحو 1000 ميغاواط من الهواء والشمس والمياه بدل إنشاء المزيد من المعامل الحرارية، وربما ضرورة إعادة النظر في التنقيب عن النفط والغاز.

إدارة النفايات
مقاربة إدارة النفايات بشكل استراتيجي ومستدام والخروج من خطط الطوارئ والحلول المؤقتة إلى الإدارة السليمة والمستدامة، يتطلبان دمج الطارئ مع الاستراتيجي، وربط كل خطة سريعة بتنفيذ التخفيف والفرز كأهم ركنين في أي خطة مستدامة، واقتراح قانون لفرض ضرائب على السلع التي تتحول سريعاً إلى نفايات، وإطلاق برامج محلية لإدارة النفايات بالتعاون مع البلديات يكون عمادها الفرز من المصدر، مما يفتح المجال أمام إعادة تعديل البرامج التي كانت مطروحة في «سيدر»، إذ لم يعد جائزاً الاستدانة من أجل مشاريع مكلفة، كإنشاء السدود أو إنشاء المحارق.

الصيد البري
قد يفاجئنا وزير البيئة، هذه السنة، بقرار بعدم فتح موسم الصيد البري. لكن المطلوب إعادة النظر بالقانون وتعديله، إسهاماً في حماية التنوع البيولوجي في لبنان ضمن تفعيل الاستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي واحترام لبنان لالتزاماته الدولية. وقد تم ربط هذا الموضوع بحماية الغابات من الحرائق والتعديات والبدء سريعاً بإقامة نظام إنذار مبكر بالتعاون مع وزارة الزراعة والبلديات والجامعات والهيئات الأهلية.
يبقى السؤال الأبرز، هل تتلقف الحكومة، والقوى السياسية التي تقف خلفها، وتغلب المصالح الاستراتيجية على الآنية؟ المدخل الرئيسي لذلك هو أن تقتنع الحكومة الجديدة، بعد الكارثة التي حلّت باللبنانيين، بضرورة التواضع في التفكير وفي إطلاق الوعود والاستدانة والمراهنة على الخارج، وبالاتكال على المقدرات الوطنية الباقية وحماية الموارد على أنواعها، وإعادة الاعتبار لمهمتها الرئيسية المنسية التي تقضي بضمان حق الأجيال القادمة بالموارد الضرورية للحياة.