أثبتت التطورات الأخيرة في ملف النفايات، عندما بقيت النفايات في شوارع المتن وكسروان بسبب عرقلة «نابشي» النفايات عملية الطمر في مطمر الجديدة، أن العلّة الأساسية تكمن في الإدارة السيئة في وزارة البيئة، التي استسلمت تاريخياً أمام مصالح متعهّدي الطمر أو الحرق أو الرمي العشوائي… وأن المشكلة لم تكن تقنية أبداً. فوجود هذا «الجيش» من نابشي النفايات في مكبّ برج حمود - الجديدة للحصول على مواد قابلة لإعادة التصنيع، دليل على جدوى التخفيف والفرز وإعادة الاستخدام والتصنيع، وعلى أن حصر الخيارات بين الطمر أو الحرق كان خدعة، أو خدمة للمستثمرين، أكثر من كونه حلاً للمشاكل على المدى البعيد. وهو ما يفرض، في حال قيام دولة عادلة يوماً ما، محاكمة كل مسؤول في الإدارات الرسمية المعنية على الجرائم المرتكبة بحق البيئة والصحة والمال العام والخاص.بغضّ النظر عن العقود الجديدة لطمر النفايات في مطمر الجديدة (بعد توقف معامل الفرز والتسبيخ في الكرنتينا)، والتي يتقاضى فيها المتعهد ١٦ دولاراً على الطن بموجب شيكات مصرفية… كان يمكن لكلفة الطمر، من دون فرز وتسبيخ، أن تكون أقل! وهذا أيضاً باب للمحاسبة على كل المرحلة السابقة التي كان يتم فيها تقاضي أموال على عمليات شكلية من الفرز والتخمير، فيما أكثر من 90% من النفايات كانت تذهب فوراً إلى الطمر.
الأزمة الأخيرة بيّنت، أيضاً، أنه كان بالإمكان خفض حجم النفايات بأكثر من ٣٠٪، بمجرد اتخاذ إجراءات لتخفيف الاستهلاك. وهذا ما أثبتته الأزمة الاقتصادية بعدما أدّت إلى انخفاض حجم النفايات التي تذهب إلى الطمر بأكثر من الثلث، وفق مصادر مجلس الإنماء والإعمار. كما بيّنت أن مبدأ التخفيف الذي كان يفترض أن تتبناه الاستراتيجية ووزارة البيئة كأولوية كان منطقياً وضرورياً، وأن الفرز وإعادة التصنيع لا يخففان من النفايات التي تذهب إلى المطامر ويُطيلان بعمرها فحسب، بل يؤمّنان فرص عمل لكثيرين أيضاً.
إذاً، الأزمة الأخيرة ليست ناجمة عن توقف المتعهد عن الطمر بذريعة وجود مئات من جامعي المواد القابلة لإعادة التصنيع ممن يعيقون الأعمال، بل سببها عدم إيجاد حلول تتضمن الآليات المطلوبة المترجمة للمبادئ الاستراتيجية. وليس الحل في وضع نقاط أمنية ثابتة لإبعاد الجامعين، بل ربما يكون من الأجدى دمج هؤلاء في خطط المعالجة، وأن تستعين البلديات بهم لإدارة عمليات الفرز في المصدر قبل أن تذهب إلى المطمر!
أما المواد القابلة لإعادة التصنيع التي يتسابق عليها الجامعون فبرهان إضافي على أهمية مبدأ الاسترداد، أي ردّ المنتجات إلى الجهات التي تنتجها لتتحمل هي أكلاف معالجتها، ولا سيما الإلكترونية منها.
العبرة التي يفترض استخلاصها من مشهد النبش في النفايات أننا لا نزال في بداية الطريق نحو ولادة إنسان جديد، أقرب إلى الحقيقة وبعيد عن الشكليات. إنسان يهتم بنفاياته كما يهتم بطعامه. أكثر تواضعاً وأقل صخباً، يتجاوز الشكليات نحو الجوهر، ويميز بين مضمون السلع المفيدة وأغلفتها الشكلية غير الضرورية. إنسان يبحث عن اقتصاد حقيقي بدل ذاك الذي صنعته الدعايات والإعلانات. يبحث عن «الضيان» في المقتنيات بدل الجديد منها لمجرد أنها «على الموضة». وإذا حصلت ثورة حقيقية يوماً ما، مع نية جديدة للإصلاح والمحاسبة، على المحاسبين على المرحلة السابقة أن يعيدوا نبش مكبات النفايات في كل المناطق للمحاسبة على سوء الإدارة والصفقات والهدر في الموارد والمال العام وتلويث البيئات البرية والبحرية والنهرية والتسبب بموت الطبيعة وتهديد حياة الناس وصحتهم.