ليس أمام وزراء هذه الحكومة (لا سيما وزير البيئة) خيارات كثيرة، بعد ما حدث من أزمات وكوارث باتت مستعصية. فإمّا أن ينتفض دميانوس قطار بما يشبه ثورة بيئية، وإمّا أن يستمرّ في النهج الاستثماري والاستهتاري الذي سار عليه أسلافه.عام 2015، ثمة من حذّر الوزير محمد المشنوق، مع تسلمه الوزارة، من أن في انتظاره ملفات «حارقة»، خصوصاً ملف النفايات. إلا أنه استمهل ثم استسهل وتذاكى وفاوض وناور، مديراً ظهره للبيئيين المحافظين وأذنه وبقية حواسه للمستثمرين! فكانت الحصيلة اقتراح مناقصات تُرضي جميع الأطراف المستثمرة (ومن ورائها زعامات مناطقية مفترضة)، من دون أن يتمكّن، في النهاية، من أن يرضي أحداً. وكاد يخرج من مكتبه بالقوة في انتفاضة عام ٢٠١٥ عندما بقيت النفايات في الشوارع، لولا مساعدة «مشنوق الداخلية» له لحمايته من غضب الناس.
وزراء التيار في العهد الجديد تابعوا المسيرة نفسها، ولكن مع تعهّدات استثمارية (مسبقة) أكثر فظاعة وخطراً، من غضّ الطرف عن سياسة السدود التدميرية، مروراً بتحضير البنية التحتية والقانونية لإنشاء محارق مكلفة وخطرة (وذات مردود معتبر للمستثمرين)، ولا تنتهي بتعهّدات المساعدة في إنشاء مزيد من معامل الإسمنت ومحاولة تعديل المخطّط التوجيهي للمقالع والكسارات قبل وضع استراتيجية متكاملة لإدارة هذا القطاع. كما كان وزير «التيار القوي»، طارق الخطيب، أوّل من تجرأ على الطيور وكسر قرار منع الصيد الكلي وسمح بإعادة فتح موسم الصيد، بدل أن يوظّف «قوّته» في إعادة النظر بقانون الصيد البري والمطالبة بالتشدّد بمنع الصيد كلياً والتوقف عن خرقه! صحيح أن الوزير الثاني للتيار (فادي جريصاتي) كان أقلّ وطأة على البيئة من سلفه، إلّا أنه استمرّ في نهج القتل المنظّم نفسه مع الطيور وأعاد فتح الموسم فور وصوله! ورغم أنه اقتنع أكثر من أسلافه بضرورة اعتماد استراتيجية للنفايات ومنح الأولوية للتخفيف والفرز، إلّا أنه لم يتعمّق في كيفية تحديد الأولويات وترجمتها في قوانين (بتعديل قانون الـ2018)، وأبقى على خطط المحارق كخيار استراتيجي، وأخفق في وضع معايير شاملة وعادلة لاختيار مواقع المعالجة. وصحيح أنه أول من طرح أسئلة حول السياسات المتعلّقة بإدارة قطاع المقالع والكسارات والمرامل وشركات الترابة، إلّا أنه لم يصل إلى حدّ طرح الخيارات الاستراتيجية بما فيها كسر الاحتكار وفتح باب الاستيراد لا سيما للرمل والترابة. وهو تخبّط أثناء التفاوض على تعديل المخطّط التوجيهي لهذا القطاع وأنهى ولايته وهو يفاوض، مع الحلفاء قبل الخصوم، من دون أن يصل إلى نتيجة، سوى عودة الفوضى في عمل هذا القطاع، لا سيما في فترة تصريف الأعمال. وصحيح، أيضاً، أنه أعدّ لرفع دعاوى على كثير من المخالفين في هذا القطاع، إلّا أن ذلك لم يصل إلى نتائج مهمّة، لا سيما إذا ما عرفنا أن كلّ العاملين في هذا القطاع مخالفون، بما في ذلك القلة المرخّص لها. وهو استسلم كلّياً أمام ملف التنقيب عن النفط والغاز من دون اهتمام بالتقييم البيئي الاستراتيجي لقطاع الطاقة عموماً وعلاقته بمبادئ الاستدامة وإمكانيات الطاقات المتجدّدة.
ليس أمام دميانوس قطار، إذاً، سوى السير في الاتجاه المعاكس، لا سيما في هذه الملفات التي بدأ الاهتمام بها يتراجع أمام هول الأزمة الاقتصادية والنقدية، وأمام وعود ملف البدء بالتنقيب عن الغاز والنفط… وذلك باستثمار ملف النفايات الذي يُفترض أن يوضع على نار حامية، لأنّ القدرة الاستيعابية لمطمر الجديدة الذي يستوعب نصف نفايات بيروت وجبل لبنان تقريباً، انتهت فعلياً.
حتى الآن، بحسب معلومات «الأخبار»، فإنّ الوزير الجديد المقلّ في التصريح بدأ نشاطه في هذا الاتّجاه. صحيح أن بعضهم يأخذ عليه أنه التقى أصحاب المصالح أوّلاً، ولم يجتمع بعد بأكبر تحالف بيئي في لبنان وجّه إليه رسالة شبه شاملة عن كلّ الملفات. وهو أكّد لـ«الأخبار» أنه سيلتقي «مع الجميع»، وقد اجتمع فعلاً مع «الائتلاف الشعبي ضدّ المقالع والكسارات وشركات الترابة» (جزء من التحالف).
في الحصيلة، إذا كان مفهوماً ما الذي يريده المستثمرون في قطاع البيئة (من جمعيات تبغي الربح) أو من «شركات استشارية» في معالجة القضايا المضرة بالبيئة (معالجة النفايات على أنواعها)، فإن السؤال دائماً كان: ما الذي تريده المعارضة البيئية؟ صحيح أن التحالف نجح في جمع أكبر عدد ممكن من الناشطين في مختلف القطاعات وبلوَر ورقة مطلبية أرسلها إلى الوزير الجديد، إلّا أن السؤال حول حجم التغيير المطلوب ونوعه بقي غامضاً، ويحتاج إلى نقاش يُفترض أن يتبلوَر سريعاً. والملحّ الآن، سواء بالنسبة إلى توجّهات الوزير الجديد أو بالنسبة إلى المعارضة المدنية القريبة من الثورة وساحاتها التي تستعدّ للحوار معه، هو تحديد الوجهة في ظلّ ظروف ضاغطة ومأزومة في كل الاتجاهات، لا سيما في ملف النفايات. فالمعارضة والضغط في اتّجاه واحد لوقف ضرر ما، من دون وجود نظرة أكثر شمولية، يمكن أن يزيدا المشكلة أو ينقلاها من مكان إلى آخر، تماماً كما حصل مع حركة إقفال مطمر الناعمة التي أدّت في الحصيلة إلى خطة طوارئ جديدة أكثر خطورة لناحية الكلفة والضرر وسوء التنفيذ مع مطمرين على الشاطئ وتهديد الملاحة الجوية والشاطئ... إلخ.
لذلك، يمكن الاستنتاج أنه لكي تكون بيئياً وحكيماً في آن، فهذا يعني أن لا تكون مع الثورة إذا كان من أهدافها التغيير بأيّ ثمن. ففي مثل هذه الظروف ومع هذا النوع من «الثوار»، يمكن أن يحصل التغيير فعلاً، ولكن إلى... الأسوأ! ولعلّ الأفضل في مثل هذه الحال، العودة إلى الوراء للتأمّل والتفكير وليس التقدم والتغيير. العودة إلى الوراء هي عودة إلى الفكر المحافظ والتراجع عن أفكار التنمية التي تعني زيادة في كلّ شيء كالإنتاج والاستهلاك. والعودة إلى المعنى الأصلي للاقتصاد الذي يعني التوفير وليس الاستدانة والتبذير. كما تعني التراجع عن المشاريع الاستثمارية في البيئة بكلّ أشكالها. فـ«كربجة» البلد ومشاريعه الكبيرة أفضل من الاستدانة أو هدر ما تبقّى من المال العام. ووقف المخالفين وتغريمهم وتحصيل الضرائب المستحقّة منهم أولى من الاستمرار في الاستثمارات المشبوهة. ورفع الضرر أولى من جلب المنفعة. وترشيد الاستهلاك (من سلع وماء وطاقة...) أفضل من زيادة السدود أو استيراد المحارق المكلفة أو الحفر لاستخراج الغاز والنفط... إلخ. وفي مثل هذه الظروف، الأفضل لوزير البيئة، الذي تمّ اختياره في ظروف حارقة، أن يلتقي مع المحافظين في جبهة واحدة، مزايداً على المزايدين… والبقية تفاصيل.