في الأزمات العميقة والخطرة، كتلك التي تمر على لبنان، لا بد من استراتيجيات استثنائية أيضاً. منطق أن نقوم بكل شيء دفعة واحدة، وأن نستدين من أجل ذلك، هو منطق توفيقي تنفيعي لم يعد صالحاً أبداً. المطلوب الآن، وقبل أي شيء آخر، تحديد الأولويات والمعايير، واعتماد استراتيجية للتنمية المستدامة، كما أشار رئيس الحكومة، وأن تشكّل وزارة البيئة فريقاً ذا خبرة استراتيجية، ووضع الأهداف والهيكلية اللازمة، ومراسلة الوزارات المعنية لتشكيل لجنة مشتركة... الخ. وهذه مهمة عاجلة يفترض أن تسبق أي طلب مساعدة أو استدانة، وقبل الاستمرار في إقرار الموازنات وخطط الإنقاذ الموعودة.بين المشاريع المطروحة ضمن «سيدر»، الاستدانة لإنشاء سدود سطحية ومعامل تكرير ومحطات لمعالجة الصرف الصحي... وإذ لا يفترض السير بمنطق أننا يجب أن نقوم بكل شيء في الوقت نفسه، ولأننا لا يفترض أن نراكم الديون في ظل أزمتنا الحالية، وجب البحث في الأولويات. ولئن كان أكثر من 55% من قروض «سيدر» (نحو 12 مليار دولار) مخصّصة لوزارة الطاقة والمياه، فإن من الضروري أن تكون هناك استراتيجيات ومراجعة السياسات والأولويات. طلبات التمويل، تم إعدادها وكتابتها على عجل، من دون أن تكون مرتبطة باستراتيجية شاملة تربط بين متطلبات القطاعات كافة، وتنطلق من مبادئ استراتيجية وتحدد الأولويات والأهداف والمهل الزمنية… الخ فلماذا نطلب، على سبيل المثال، تمويل إنشاء سدود بعضها لتوليد الطاقة الكهربائية، ومحارق نفايات لتوليد الطاقة أيضاً، إضافة إلى طلب تمويل محطات المعالجة… وكأن الدولة تريد أن تموّل كل شيء وأن تنفّع كل المقاولين والشركات والزعامات والمناطق… أكثر من أي هدف آخر يتعلق بسياسات تأمين الطاقة والمياه ومعالجة النفايات، وبعيداً عن أي تفكير استراتيجي. وإلا، ما حاجتنا إلى توليد الطاقة من النفايات بأكلاف خيالية (إذا أردنا أن نلتزم بشروط صارمة) في وقت بدأنا الحفر الاستكشافي عن النفط والغاز؟ وهل ندرك أن كل متر مكعب من المياه المجموعة من السدود بكلفة تتجاوز 25 دولاراً للمتر الواحد، يتطلب أكثر من دولار لمعالجته عندما يتحول إلى متر من مياه الصرف العادمة، ما يعني أن كلفة معالجة مياه الصرف ستتجاوز كلفة تأمين مياه الشفة؟! وهل قدّرنا أي فاتورة ستفرض على المكلف اللبناني بعد كل ذلك؟ وأي عقل مفصول عن الواقع يخطط لكل ذلك؟!
كذلك، كما يمكن أن يضاف إلى مشاريع الاستدانة غير الضرورية وغير الاستراتيجية، تمويل مشاريع تطوير البنى التحتية لتنفيع لشركات استيراد السيارات الخاصة، من دون أي أفق لحل قضايا النقل العام بما يؤمن انتقال الأفراد بأسرع الطرق وأرخصها، ومن دون وجود سياسات زراعية وحرفية وإنمائية وسكانية لامركزية، تساهم في إبقاء الناس في قراهم والتخفيف من انتقالهم إلى المدن.
بين المبادئ الاستراتيجية التي يفترض تبنيها على المستوى الحكومي، مبادئ «الاقتصاد الدائري» التي بدأت تسود عالمياً، وستصبح ملزمة بموجب اتفاقيات دولية إذا ما تم الالتزام باتفاقية باريس المناخيّة التي نصّت على البدء بتنفيذها نهاية هذا العام. وأهم ما تتضمنه هذه المبادئ، التوفير وإعادة الاستخدام والتدوير وحفظ ديمومة الموارد. وهذا ما ينطبق على ملف النفايات، إذ بحسن إدارته عبر إجراءات التخفيف والتدوير، يمكن توفير انبعاثات خطرة من غاز الميتان تتجاوز في لبنان انبعاثات القطاع الصناعي بأسره، إضافة إلى التوفير في تمويل الخطط الطارئة المكلفة جدا على البيئة والخزينة، والتي تحتمل الكثير من السرقة والهدر بأكلافها الخيالية.
لذلك، علينا أن نكون حذرين جداً حين نطلب من الحكومة الجديدة أن تشجع الاقتصاد المنتج (زراعة وصناعة)، من دون أن نضيف إليهما مفاهيم الاقتصاد الدائري وشروط التوفير والاستدامة. بالمقارنة مع مطالبتنا بتغيير مفهوم دعم السياحة لتصبح أكثر استدامة، عبر حماية مقوّماتها من طبيعة وماء وهواء، كقيمة تفاضلية تاريخية وتراثية في لبنان.
كما يفترض اعتماد استراتيجيات تدمج بين متطلبات الأمن البيئي والأمن الاقتصادي والصحي والغذائي والمائي والطاقوي والاجتماعي...الخ
فاستيراد الأرز بدل زراعته، على سبيل المثال، يوفر الكثير من المياه، إذ كلما استوردنا كيلوغراماً واحداً من الأرز يمكن توفير 1250 ليتراً من المياه تستهلكها زراعة الأرز في الصين. وكذلك الأمر، فإن حماية الأحراج والمساحات الخضراء الباقية، ولا سيما فوق القمم، مهمة لحفظ التنوع البيولوجي بالطبع، وأيضاً لحماية الثروة المائية من العمران والحرائق، نظراً إلى دور الشجر في استجلاب المطر وأهمية جذورها لحفظ التربة وزيادة القدرة على تخزين المياه. ولا حاجة إلى التذكير بأهمية منع الصيد البري الكلي ووقف عمليات إبادة الطيور، بدل «تنظيم» قتلها! مع العلم أن انقراض نوع واحد من الأنواع خسارة لا تُعوض، ويجب أن يؤخذ ذلك بين الأولويات الاستراتيجية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إدارة قطاع المقالع والكسارات وشركات الاسمنت، والذي لا يزال يفتقر إلى استراتيجية لإدارة تنطلق من المحاسبة على الفترة السابقة وإعادة تحصيل الأموال والعائدات المنهوبة وإلزام المشوّهين إعادة التأهيل، ووضع رؤية للمستقبل تحمي الموارد النادرة كالرمل، وتحصر عمل المقالع بأملاك الدولة، وتفتح باب استيراد الاسمنت بدل إنشاء مزيد من المعامل... الخ.
فهل حان الوقت، مع الحكومة الجديدة، أن تتحول الأزمات الطارئة والاستثنائية إلى خيارات استراتيجية مستدامة وموفّرة بكل الاتجاهات، أم أن الحكومة ستزيد من العجز والتدهور وتفاقم الأزمات بما يؤدي إلى السقوط الحتمي في هاوية سحيقة بلا قعر؟