«هري»، ربّما هي أفضل كلمة يمكن اعتمادها في شرح ما يجري في ملفّ سدّ النهضة، منذ انفجار الأزمة في عام 2012 وحتى اللحظة التي أعلنت فيها إثيوبيا، أمس، اكتمال الملء الثاني للسدّ. تلك الكلمة التي وجّهها الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى جموع الشعب المصري الخائفة، أثناء فعاليات المؤتمر الأول لمشروع تنمية قرى الريف المصري، تعني في اللغة الشعبية المصرية: الكلام الكثير الفاسد، الذي لا نظام له ولا فائدة منه. لكن مع الإعلان الإثيوبي أمس، من دون توقيع اتفاق مُلزِم بين مصر والسودان وإثيوبيا، يمكن توجيه السؤال نفسه إلى النظامَيْن المصري والسوداني على السواء: هل كان التصعيد وخلْق حالة من عدم الاتّزان من جانب النظامَين «هري»؟ وبماذا يمكن توصيف مشاركة الحكومتَين مواطنيهما جزءاً يسيراً من المعلومات، وتركهما أكثر من 150 مليون مصري وسوداني تتلقّفهم التصريحات من كلّ جانب، بغير أنه «هري»؟وقبل أسابيع من الموعد المحدّد، وبشكل مفاجئ، خرجت تصريحات، صباح أمس، عبر الإذاعة الإثيوبية، تُعلِن اقتراب اكتمال الملء الثاني لسدّ النهضة. ثمّ لحقتها تغريدة لصالح بيكيلي، وزير المياه والريّ والطاقة الإثيوبي، عبر حسابه في «تويتر»، يقول فيها إنه «تمّت عملية الملء الثاني لخزّان النهضة. وهذا يعني أن لدينا كمية المياه اللازمة لتشغيل التوربينات». كذلك، بثّ التلفزيون الإثيوبي ووكالة الأنباء الإثيوبية صوراً وفيديوات توضح اكتمال عملية الملء الثاني للسدّ، ليخرج بعدها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، معلناً، في أجواء احتفالية وبكلمات قليلة عبر حسابه في «تويتر»، أنه «للعام الثاني، ننجح في ملء سد النهضة، ونهنئ شعبنا باكتمال التعبئة الثانية».
هكذا، بدأ فصل جديد من دائرة مفرغة، يدور داخلها المواطن باحثاً عن إجابة مطمئنة، أو تفسير لما يحدث، يهيّئه للاحتمالات المقبلة كافة.

مصر والسودان تكذّبان إثيوبيا
أعقب الإعلان الإثيوبي هذا، تكذيبٌ رسمي من جانب السودان، بينما اكتفى الجانب المصري بعدم التعليق. وصرّحت وزارة الريّ السودانية، في بيان، بأن «إثيوبيا فشلت في عملية الملء الثاني للسدّ، لأنها لم تنجح إلّا في تخزين 3 مليارات متر مكعّب فقط من مياه النيل، بينما كان المستهدف هو 13.5 مليار متر مكعب»، محذّرةً من أن «النهج الذي تتبعه إثيوبيا في شأن سدّ النهضة يؤدّي إلى الإضرار بالعلاقات التاريخية بيننا». لكنّها أكدت أن «الوقت لم يفُت بعد للوصول إلى الاتفاق المرجو في شأن السدّ إذا توفّرت الإرادة السياسية».
وفي وقت سابق، أكد مسؤولون وخبراء مصريون وسودانيون، استحالة اكتمال الملء الثاني، عبر حجز 13 مليار متر مكعّب من المياه، وذلك بسبب فشل أديس أبابا في تعلية الممرّ الأوسط، واستكمال الإنشاءات وأعمال الخرسانة. وبحسب هؤلاء، نجحت إثيوبيا في تعلية الممرّ الأوسط ثمانية أمتار فقط، ليصل طوله إلى 573 متراً، بعدما كان المستهدف تعليته 30 متراً، ليصل إلى 595 متراً، حتّى يصبح قادراً على تخزين 13.5 مليار متر مكعّب. إضافة إلى ذلك، لم تنجح إثيوبيا في الالتزام بجدول إنشاء السدّ الذي كان من المفترض أن يولّد كهرباء في عام 2014، كما أنها لم تستكمل، حتى الآن، أهداف المرحلة الأولى، بتخزين 18.5 مليار متر مكعّب.
تجنّبت أديس أبابا الإعلان رسمياً عن كمية المياه التي نجحت في تخزينها


ومع الإعلان عن اكتمال الملء الثاني، تجنّبت أديس أبابا الإعلان رسمياً عن كمية المياه التي نجحت في تخزينها، الأمر الذي خلق تضارباً في التصريحات الصادرة عن مسؤوليها، وتلك الصادرة عن القاهرة والخرطوم. فبحسب تقارير وكالة الأنباء الإثيوبية الحكومية، اكتملت عملية بناء السدّ بنسبة 80 في المئة، فيما «المتوقّع أن يصل (السدّ) إلى طاقته التوليدية الكاملة، في عام 2023»، ما يجعله أكبر محطّة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، وسابع أكبر محطة في العالم.

إثيوبيا تكذّب مصر و السودان
من جهتها، أصرّت إثيوبيا، على لسان رئيس وزرائها، آبي أحمد، على أن الملء الثاني تمّ بسلام، كما جرى في إطار الملء الأوّل، متوقّعاً أن تتمّ مراحل الملء المتبقية بسلام أيضاً، من دون أيّ أضرار تُذكر. وبرّرت أديس أبابا انتهاء الملء الثاني قبل الوقت المقرَّر، بوفرة الأمطار وغزارتها في هذا الموسم. ما ورد على لسان آبي، يتوافق مع البيان الصادر عن وزارة الريّ السودانية، الأحد، والذي طلب من القاطنين على جانبَي النيل الأزرق اتّخاذ الحيطة والحذر، جرّاء ارتفاع متوقَّع للمياه، نتيجة الأمطار الغزيرة في الهضبة الإثيوبية. ومن هذا المنطلق، يقول السودان إن «الفيضانات فاجأت إثيوبيا أثناء العمل على تعلية الممرّ الأوسط، بالتالي لم تستطع استكمال الإنشاءات وتعلية ممرّ السد الأوسط إلى 595 متراً، كما كان مستهدفاً».
وحتى الآن، ترفض إثيوبيا الحديث عن فشلها، لكنّها تصرّ على عدم تداول المعلومات عن حجم الملء، ممّا يزيد الغموض والتخبّط بين التقارير والبيانات الصادرة عن الجانبَين المصري والسوداني من جهة، والإثيوبي من جهة أخرى. وعليه، تبقى المعلومات الحقيقية حبيسة الأدراج الحكومية، على ما يؤكد الرئيس المصري حين يقول إن «هناك أشياء لا يمكن أن يقولها». ولكن إن كان مستقبل البلاد لا يمكن تشاركه، فماذا يبقى؟