القاهرة | على حين غرّة، صارت أزمة مصر كلّها تتلخّص في مخالفات البناء العشوائي. البلد الذي يعاني من تدهور في الأجور ومشكلات داخلية جمّة، بخلاف الخارجية وعلى رأسها «سدّ النهضة»، بات همّه الآن، حصراً، البناء العشوائي وأزمة المرافق وتوسيع الطرق الضيّقة لتخفيف الزحام المروري. هكذا حَوّل الرئيس عبد الفتاح السيسي توجُّه الدولة، لتكون مقاولاً للبناء وإعادة التخطيط بدلاً من تقديم الخدمات. العام الماضي، تلقّى السيسي تقارير تؤكد خطورة ردّ الفعل على الرسوم المفروضة لتقنين أوضاع المخالفات التي سُجّلت على مدار العقد الأخير بمبالغ أَدخلت على خزينة الدولة مليارات الجنيهات في أقلّ من عام، مع أنها كانت مقدّمات فقط لإثبات جدّية التصالح. ومن المتوقّع أن تُحصّل الدولة مليارات سنوياً خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، لتقنين وضع العقارات المخالفة وتسجيلها ضمن المنظومة الجديدة التي تسمح بالبيع والشراء، مع استخراج رقم قومي مسجّل لكلّ عقار صالح للسكن من دون مشكلات.على أن أزمة السيسي حالياً لم تعد مع الفقراء ومحدودي الدخل الذين يريد إطاحتهم من منازلهم مقابل تعويضات هزيلة، بل تمتدّ إلى الأثرياء الذين رفضوا مشاريعه في ضاحية مصر الجديدة، حيث يجري العمل على بناء جسور ــــ أريد منها تسهيل حركة المرور ــــ بطريقة تُدمّر الهوية التاريخية لمنطقة البازليك في حيّ مصر الجديدة الذي أسّسه البارون إمبان، فضلاً عن حيّ الزمالك الذي يحاول سكّانه الحفاظ على طبيعته التاريخية. غضب الأغنياء جرى العمل على استيعابه سريعاً جرّاء التهديد بتظاهرات في الحيّ الذي يقع فيه مقرّ رئاسة الجمهورية، وذلك بإعلان أنه لا نية لإنشاء جسر من الأساس، فيما يضغط سكّان الزمالك لإلغاء مشروع «عين القاهرة» الذي وضعت وزارة السياحة والآثار الحجر الأساس له قبل أسابيع ضمن خطّة للاستثمار في الحيّ الشهير. أمّا غضب الفقراء ومحدودي الدخل، فلا يزال مكتوماً، من دون ردّ فعل حكومي بخلاف الحديث عن التعويضات المتدنّية.
أزمة السيسي ليست مع الفقراء ومتوسّطي الدخل فقط، بل تشمل الأغنياء هذه المرّة


الأحد الماضي، اصطحب الرئيسُ وزراءَ الحكومة في زيارة إلى عزبة الهجانة التي تُعدّ واحدة من أكثر المناطق مخالفة في البناء العشوائي، حيث تحدّث بحزم عن إعادة تخطيط المنطقة كجزء من مخطّط أكبر لتطوير المناطق المماثلة بتكلفة تتجاوز نظرياً مليارات الجنيهات، على أن تدرّ على الحكومة مليارات أخرى ليس بسبب إعادة بيع الأراضي بأسعار أعلى بكثير من التي دفعها للأهالي، بل لزيادة القيمة السوقية للمشاريع الحكومية المنفَّذة في هذه المناطق بهدف استثماري. ظاهر هذه العملية التطويرية هو «توفير الحياة الكريمة للمواطنين وتصحيح أخطاء عمليات البناء من 2011 حتى 2017»، لكن ما تخفيه أكبر من مجرّد إنفاق مليارات الجنيهات على مجموعة طرق جديدة لتوسيع القديمة أو بناء طرق وجسور جديدة يفاخر «الجنرال» بإنجاز نهضة فيها، مع أنه جمع كلفتها أولاً من أصحاب السيّارات بالرسوم الإضافية على التراخيص، وثانياً من جيوب المواطنين تحت مسمّى «رسوم تنمية موارد الدولة» الذي يتكرّر مع أيّ رسوم يُسدّدها المصريون في الخدمات الحكومية.
الصدام هذه المرّة، وفق تقرير رسمي تلقّاه السيسي، مرتبط بمواجهة مع محدودي ومتوسّطي الدخل، سواء ملّاك الأبراج الذين بنوا على الأراضي بشكل غير مخطَّط، أو ملّاك الوحدات الذين وضعوا أموالهم في شقة تمليك ليستقرّوا فيها وباتوا اليوم مطالَبين بالخروج منها والحصول على أقلّ من نصف ما دفعوه، في وقت تسبَّبت فيه الإجراءات الحكومية المتلاحقة في زيادة أسعار العقارات بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة. حتى قبل عشر سنوات، لم يكن شراء شقة من الوحدات الحكومية يتجاوز خمسة آلاف دولار للوحدة، لكن اليوم بات شراء الشقق الحكومية لمحدودي الدخل يتجاوز 13 ألفاً (مع إطالة أمد السداد). أمّا شقق متوسّطي الدخل، فتُكلِّف الآن أكثر من خمسين ألفاً وفق الأسعار الحكومية التي زادت بتوجيهات مباشرة من الرئاسة لتحقيق عائدات كبيرة، علماً بأن رفع الدولة أسعار الشقق دفع الشركات الخاصة إلى قرارات مماثلة، ولا سيما أن الحكومة زادت كلفة سعر الأراضي.
خلال الشهور الماضية، طرحت الحكومة فرصاً لعقارات تبنيها لمختلف الفئات، لكن غالبية الوحدات لم تُحجز باستثناءات قليلة بسبب زيادة المعروض عن حجم الطلب، وهو ما دفع إلى إعادة توجيه المواطنين نحو الشراء الإجباري بتسهيلات لشغل آلاف الوحدات الشاغرة، سواء التي تمّ الانتهاء من بنائها أو ثمّة مخطّطات لتشييدها. وهو أمر لن يقتصر على المواطنين القاطنين المباني المخالفة، بل سيشمل أيضاً موظفي الحكومة العاملين في الوزارات، فهؤلاء سيكونون مجبرين على شراء وحدات سكنية جديدة تُجهّزها الحكومة بالقرب من مباني الوزارات الجديدة. هذه الخطة تُوفّر للموظفين المنتقلين شققاً جاهزة يجري سداد ثمنها من رواتبهم على مدد سداد طويلة وفوائد سنوية مع تخفيضات للدفع الفوري، فيما سيجري التوسّع في تنفيذ مشروعات الطرق، وزيادة الرسوم المفروضة على كلّ طريق، وزيادة رسوم المواصلات داخل القاهرة وبين المحافظات، على نحو يلتهم أيّ زيادة في الرواتب.
وعلى رغم تلقّي السيسي تقارير حول الغضب من الظروف التي تحيط بعملية التعويضات لِمَن لا يرغب في الانتقال، وخاصة أن غالبية المواقع المقترحة لنقل المواطنين بعيدة عن مواقع منازلهم الحالية، إلا أن نزول الرئيس مع الحكومة إلى عزبة الهجانة، وقبله مداخلته الهاتفية في برنامج تلفزيوني للحديث عن الأمر، جاءا ليعكسا رغبة في إيصال رسالة بأن الحكومة مستمرّة في تنفيذ قراراته في شأن إزالة المخالفات، ونقل المواطنين لتحسين حياتهم جبراً وفق وجهة نظر الرئيس وحده!