القاهرة | مشروع تسوية للحرب في ليبيا تعكف كلّ من مصر والإمارات والسعودية، وربّما روسيا، على نسجه. مشروعٌ يقوم على إجراء تعديل على حكومة «الوفاق» برئاسة فائز السراج، بما يضمن إشراك أطراف فاعلين ومؤثّرين فيها، إضافة إلى تسوية أوضاع الميليشيات الليبية، مع إرجاء النظر في وضع المرتزقة الذين قَدِموا من تركيا خلال الفترة الماضية حتى إشعار آخر، ومن ثمّ الانطلاق نحو جولة جديدة من المفاوضات. وتستهدف الخطّة، التي يجري طبخها على نار هادئة وتتألّف من عدّة محاور، بالدرجة الأولى، تلافي مواجهة مصرية - تركية على الأراضي الليبية.رئيس البرلمان الليبي المتركّز في شرق البلاد، عقيلة صالح، زار القاهرة على مدار يومين، حيث عقد اجتماعات مع أطراف مصريين وأميركيين للبحث في مستقبل الوضع في ليبيا. وتصدّرت أجندةَ الاجتماعات إمكانيةُ إقامة منطقة معزولة في سرت والجفرة، ومشاركة قوات أممية بقيادة أميركية في مراقبتها للتأكّد من استقرار الأمن هناك وتفادي أيّ احتكاكات مصرية - تركية، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، علماً بأن كلّاً من طرفَي الصراع - اللواء المتقاعد خليفة حفتر وحكومة «الوفاق» - يتطلّع إلى السيطرة على المنطقة التي تعتبر قلب الهلال النفطي.
ولا تستند القاهرة، في تحرّكها الجديد، إلى التأييد الخليجي لها فقط، بل أيضاً إلى اختراق أمني تمكّنت من إحداثه في قلب حكومة «الوفاق»، من خلال نائب رئيسها أحمد معيتيق، الذي يبدو أنه توصّل إلى تفاهمات بشكل غير مباشر مع المصريين خلال الفترة الماضية، فضلاً عن تفاهماته مع موسكو للعب دور أكبر في الحياة السياسية في مرحلة ما بعد السراج. والظاهر أن مصر تسعى إلى تفجير الأزمات الداخلية الليبية بوجه «الوفاق»، واستثمار حالة الغضب المتصاعدة لدى بعض المقاتلين تحت لوائها بسبب تدنّي رواتبهم وتأخر دفعها، وهو ما يجري استغلاله بوضوح من أجل الوصول إلى صيغة تفاهمية جديدة، تتضمّن إحداث تعديلات جوهرية في حكومة غرب البلاد، من خلال تطعيمها بشخصيات يمكن أن تحقق توازناً في المستقبل مع الأجنحة الموالية لتركيا.
تستغلّ القاهرة الخلافات بين السراج ونائبه والصراع على النفوذ بينه وبين وزير داخليته


وعلى رغم الاعتراض الأميركي على المطالب المصرية بإقصاء فتحي باشاغا من وزارة الداخلية، إلا أن ثمة مطالب أخرى حظيت بتوافق، خصوصاً في شأن مستقبل المرتزقة، في ظلّ وجود وعد ألماني بالإسراع في إعادة تمكين الأمم المتحدة من لعب دور أكبر خلال الفترة المقبلة. كذلك، وعدت برلين بعدم السماح بنقل مرتزقة عبر البحر، ومراقبة الشواطئ الليبية بشكل حاسم، الأمر الذي سيحدّ من عمليات نقل المرتزقة السوريين، والتي تتمّ بشكل شبه منتظم من تركيا إلى طرابلس، فضلاً عن الحدّ من عمليات توريد السلاح الذي يصل إلى الطرفين.
ولم تفغل مصر، في تحرّكاتها الأخيرة، عن التواصل مع المغرب والجزائر على أعلى المستويات، للتباحث في جهود التسوية التي يقودها البلدان، والتي تراها القاهرة متوافقة مع ما تطلبه، إلا أن المشكلة أن تنفيذ هذه المبادرات على أرض الواقع لا يزال يصطدم بـ»تعنّت السراج الذي لا يمكن أن يُقدِم على أيّ خطوة من دون الحصول على موافقة تركية صريحة»، بحسب مصادر مصرية مطّلعة.
وبالعودة إلى محاولات مصر خلخلة معسكر «الوفاق»، فإن الخلافات التي نشبت أخيراً بين السراج ومعيتيق تعود إلى اكتشاف الأوّل تفاصيل بعض الاتصالات التي جرت بين نائبه والإدارة المصرية بشكل غير مباشر، والتي تركّزت على تفجير قضايا الفساد المالي لزعزعة الثقة الداخلية بالسراج، ودفعه إلى تقديم تنازلات. كذلك، تسعى مصر إلى تزكية الخلافات بين الميليشيات التي تسيطر على طرابلس وتلك الموجودة في مصراتة، ومن ثمّ استمالتها إلى معسكر حفتر.
أمّا في ما يتصل بوزير الداخلية، باشاغا، فتشتغل مصر أيضاً على الاستفادة من صراع النفوذ بينه وبين السراج، ومحاولته كسب ودّ أطراف عديدين بخلاف تركيا، في مقدّمتها الولايات المتحدة. وعلى رغم أن باشاغا ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمون»، إلا أن اعتراض القاهرة عليه ليس جوهرياً، وخصوصاً أن بروزه على الساحة ولو بشكل مؤقّت كخليفة محتمل للسراج، من شأنه توليد إمكانية تقديم تنازلات، في ظلّ الصراع الموجود بالأساس بين الميليشيات التي تدين بالولاء مباشرة لرئيس «الوفاق»، وتلك المنضوية تحت لواء وزارة الداخلية.
انطلاقاً من كلّ ما تقدّم، ترى القاهرة أن انقسام المجلس الرئاسي بسبب خلافات السراج ومعيتيق، والصراع على النفوذ بين السراج وباشاغا، فضلاً عن الضغط الشعبي المترافق مع الكشف عن تفاصيل بعض عمليات هدر الأموال، كلّها عوامل يمكن أن تُحرّك الشارع وتدفع الميليشيات إلى تغيير ولاءاتها، الأمر الذي سيكون له تأثير جوهري على مخطّطات السيطرة على طرابلس ومصراتة من ناحية، وعلى المسار السياسي الذي تأمل مصر إطلاقه مجدّداً بعد انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل من ناحية أخرى.