الجزائر تتمنّع عن التنسيق الفعّال مع القاهرة
القاهرة | يدرك النظام المصري أنه مع القوة العسكرية التي يتمتع بها مقارنة بجيوش القارة، فإن الاشتباك العلني مع أي من أطراف الأزمة الليبية لن يكون ثمنه سهلاً، وذلك لسنوات وسنوات. فبرغم الضغوط الخليجية والاستفزازات التركية، تفضّل القاهرة التعامل بمنظور سياسي معلن وعسكري مستتر، وفي أوقات محددة فقط، حتى لا تستنزف القوات المسلحة، وتجنباً لصدامات دولية، بالتوازي مع انتهاج مبادئ عكس ما تصرفت به الأنظمة المتعاقبة.
على عكس الابتعاد النسبي ممّا يحدث في سوريا وتذبذب المواقف من الحرب فيها، وبخلاف الانحياز إلى السعودية والإمارات في حرب اليمن دون تدخل مباشر، تفرض ليبيا نفسها كأولوية مختلفة في الاهتمام المصري، وهو أمر يرجع بدرجة أولى إلى كونها الجارة الغربية التي تمتد على حدود مشتركة تصل إلى 1200 كلم، إضافة إلى تاريخ العلاقات الاقتصادية ومستقبلها بين البلدين. مع أن التبادل والتجارة شهدا تراجعاً جراء الصراع المستمر منذ إطاحة نظام معمر القذافي، فإن المستقبل يقول إن العلاقة المستقرة ستدعم الاقتصاد المصري كثيراً. الطموح في هذا الجانب يتوزع على ملفات، منها تصدير الكهرباء إلى المدن الليبية عبر مشروع «الضبعة» النووي الأقرب إلى الحدود الغربية، بجانب الدور المرتقب للعمالة والشركات المصرية في إعمار البلد الذي مزقته الحرب ودمرت بنيته التحتية، الأمر الذي تسعى مصر إلى الفوز به على حساب تركيا المتصادمة معها في ملفات كثيرة منذ إطاحة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي منتصف 2013.
لكن جزءاً من الحسابات المصرية في الحرب الليبية يرتبط برغبةٍ في التخلص من أي نفوذ لتيار الإسلام السياسي المتهم بتنفيذ عمليات استهدفت الجيش المصري، وخاصة مع التسهيلات التي قدمها إسلاميون إلى جماعات مسلحة في أوقات سابقة ونجحت في إسقاط عدد من القتلى والجرحى. ملفٌّ نجحت القاهرة في التعامل معه ومواجهته عبر مسارين: الأول تعزيز مراقبة الحدود، والثاني دعم قوات المشير خليفة حفتر بالسلاح والعتاد بصورة غير معلنة، بتمويل إماراتي ــــ سعودي، وآخر ذلك تسليمها العام الماضي سيارات دفع رباعي من الرياض وسُلمت عبر الأراضي المصرية. ربطاً بالتخوف من الإسلاميين، يخشى الجيش المصري، وفق مصادر عسكرية، من «تكدس المقاتلين السوريين والمرتزقة على الحدود الغربية»، وهي أعداد ستُدخل الجيش في «حسابات معقدة» وخاصة أن «المساحة الطويلة للحدود تجعل التأمين الكامل أمراً شبه مستحيل عبر الدوريات فقط»، ما يستلزم «المزيد من التنسيق مع القبائل والبدو على جانبي الحدود».
هذان العاملان، التخوف من تيارات الإسلام السياسي ووجود مقاتلين أيديولوجيين، يشكلان عقيدة التدخل العسكري الحالي «المرتبطة رأساً بالأمن القومي»، كما أنهما «السبب الرئيسي في الانحياز إلى حفتر على عكس باقي دول الجوار»، وخاصة مع «محاولة الجزائر إمساك العصا من المنتصف، رغم انحيازها نسبياً إلى رئيس حكومة الوفاق فايز السراج»، وهو سلوك يكاد يتطابق مع الموقف التونسي، بقيادة قيس بن سعيد، الساعي إلى الابتعاد عن الأزمة تجنباً للمزيد من الصدمات الداخلية مع الإسلاميين، كما تشرح المصادر نفسها. وبرغم التنسيق المصري بين حفتر ورئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، في مراحل سابقة، بل استضافة منشقين عن حكومة السراج للإقامة في القاهرة التي تحولت إلى منصة إعلامية لحفتر (عبر استضافة مؤتمرات صحافية للمتحدث الرسمي باسمه)، فإن تصاعد الخلاف مع السراج وغياب مواقف معتدلة معه دفعته أكثر نحو تركيا التي تسعى حالياً، طبقاً لمسؤولين مصريين، إلى إعادة العلاقات مع مصر تدريجياً.
تسببت انكسارات حفتر الميدانية في تركيز مصري على الحلول السياسية


اللافت أن محاولات التنسيق التركي، التي جرى جزء منها بسرية خلال الأشهر الماضية، يجري استكمالها بتغيير مواقف السراج من القاهرة. وظهرت آثار ذلك سريعاً في تصريحات وزير داخلية «الوفاق» (وكالة «بلومبرغ» الأميركية)، فتحي علي باشاغا، الذي وصف مصر بأنها «وسيط يمكن النقاش معه، ومساعدته لحماية رعاياه على الأراضي الليبية»، كما عبّر عن غضبه من فيديو ظهر فيه عدد من المصريين في وضع مهين عقب سيطرة قوات «الوفاق» على مدينة ترهونة. الموقف المستجد لحكومة الغرب يرتبط أيضاً بتهديدات وصلت عبر وسطاء، فحواها «رفض أي إهانة للمصريين وخاصة مع وجود ضغوط خليجية لتنفيذ تدخل عسكري دائم ومستمر». وبشأن ذلك، تقول المصادر إن الرفض المصري لهكذا تدخل مرتبط بالرغبة في علاقات جيدة مع الليبيين الذين إن قبل بعضهم التدخل راهناً، فإنه لن يكون مقبولاً مستقبلاً. كما أن القاهرة أبلغت أبو ظبي والرياض أنها تساهم في عمليات الدعم والمساندة من دون إعلان، علماً بأن تدخلها الوحيد المعلن كان بطائرات «رافال» لقصف مواقع جماعات إرهابية سبق أن ذبحت عدداً من الأقباط المصريين.
هكذا، تقترب «الوفاق» من قبول التعامل مع الدولة المصرية مجدداً، برغم أن الرئيس عبد الفتاح السيسي طلب في «إعلان القاهرة» الأسبوع الماضي تواصل الأمم المتحدة مع السراج لإتمام المسار السياسي. وبموجب التصريحات الأخيرة التي تبديها حكومة السراج، فإن المرجح عودة الاتصالات غير المباشرة بين القاهرة وحكومة طرابلس قبل إعلان أي حضور إلى اجتماع برعاية مصرية أو جزائرية، وخاصة أن الجزائر استضافت أول من أمس عقيلة صالح، واعدين إياه بـ«جمع الليبيين على طاولة الحوار وفق مقررات برلين، وبتوحيد الجهود مع مصر وتونس لحل الأزمة الليبية». في هذا السياق، تقول القاهرة إنها تمارس ضغوطاً على الدول الأوروبية المعنية بالأزمة، وفي مقدمتها فرنسا الداعمة لحفتر على نحو شبه معلن، وألمانيا التي تظهر الحياد بتواصلها مع طرفَي النزاع الرئيسيين، وإيطاليا المنحازة إلى السراج بدعوى التهديدات الأمنية التي يمكن أن تسببها عودة رحلات الهجرة غير الشرعية أو سفر المتطرفين بصورة منتظمة ودورية من الشواطئ الليبية.
مع ذلك، يتأثر الوضع في ليبيا بصراع الزعامة بين القاهرة والجزائر، وخاصة أن الرئيس عبد المجيد تبون، الذي يفترض أن ترأس بلاده الدورة الجديدة من الجامعة العربية، يسعى إلى أن تكون القيادة الإقليمية شمال القارة بيد بلاده بدلاً من مصر التي همشت دورها كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب الظروف الصحية لعبد العزيز بوتفليقة، بجانب تداعيات الثورة الجزائرية السابقة، وهو صراع لا يزال تحت الرماد حتى الآن، ولا سيما أن محاولات إنهائه من السيسي شخصياً لم تنجح. بجانب ذلك، يقول مصدر دبلوماسي لـ«الأخبار» إن هناك اهتماماً خليجياً بالأوضاع المستجدة لاعتبارات، على رأسها الصراع مع قطر التي تدعم التحركات التركية في ليبيا مباشرة، فضلاً عن الخلاف الخليجي ــــ التركي الذي عزز تدفق المال إلى أطراف النزاع. لهذا، تبدو عودة «آلية دول الجوار» صعبة حالياً بسبب تسعير الصراع خليجياً، مع غياب الرغبة الجزائرية في التنسيق مع الأطراف ومنها مصر، فضلاً عن ضعف التأثير التونسي. كل هذه العوامل ستجعل دور الجامعة العربية أقل تأثيراً، وخاصة أن محاولاتها للوساطة لم تلقَ قبولاً جزائرياً أو تونسياً.



أفق الحل السياسي مصرياً
سبق أن توافقت الأطراف الإقليمية والدولية بشأن ليبيا على الإطار السياسي لحل خطوطه العريضة كتابة دستور وإجراء انتخابات، لكن هناك قضايا أخرى لم تحسم، ولذلك يحاول كل طرف تحقيق مكاسب على الأرض للحصول على أكبر قدر في أي اتفاق نهائي، فضلاً عن أوسع تمثيل في الهيئات الانتقالية التي يفترض أن تجري انتخابات رئاسية وبرلمانية خلال عامين من إقرارها. بجانب إشكالات قديمة، مثل مستقبل الميليشيات المسلحة وتنظيم الجيش وقيادته، استجدت مشكلات مثل مصير السوريين الذين وصلوا بحراً وجواً بدعم تركي للقتال دفاعاً عن العاصمة. حتى الآن، لا توجد رؤية واضحة بشأن التعامل مع الميليشيات لدى الطرفين، وخاصة أن حفتر ضم إلى قواته فرقاً منها كما فعلت «الوفاق»، وكلها متهمة بأعمال إرهابية. أما السوريون الذين استجلبتهم أنقرة، فيقدر عددهم بنحو عشرة آلاف، ما يعني أنه رقم من الصعب إخراجه كلياً وفوراً، كما تطلب مصر كشرط لبدء المفاوضات. والرؤية المصرية حالياً لا تعارض دمج بعض القوى المسلحة لدى السراج تحت قيادة حفتر مع الحفاظ على هدنة تضمن لجميع الأطراف الإعداد للعملية السياسية، لكن إذا أخفقت المفاوضات هذه المرة، فسيكون السيناريو الأقرب هو تقسيم الدولة والعودة إلى الأقاليم الثلاثة المكونة تاريخياً لها. حل، إن كان يرضي القاهرة التي خسرت أطرافاً رئيسية في طرابلس بسبب تأثير الإسلاميين، فإنها لا ترغب فيه لأبعاد مرتبطة بالأمن القومي.