لم يكن إعلان بناء «سدّ النهضة» في نيسان/ أبريل 2011 سوى نتاج طبيعي لتفجّر الخلافات حول «الاتفاقية الإطارية لمبادرة حوض النيل»، وتوقيع عدد من دول المنابع بصورة منفردة على «اتفاقية عنتيبي» في أيار/ مايو 2010. وجاء التوقيع على الاتفاقية الأخيرة بعدما بلغت الخلافات ذروتها عام 2009 في مؤتمرَي كينشاسا والإسكندرية، وما تلاهما من انهيار للمفاوضات في مؤتمر شرم الشيخ عام 2010، لتنتهي بذلك ستّ سنوات من التفاوض بإعلان برلمانات كينيا وأوغندا وتنزانيا رفضها الاعتراف بـ«اتفاقية 1929» المُنظِّمة لتوزيع المياه. وعلى مدار أكثر من عقدين من حكم محمد حسني مبارك، كانت الهوة تتّسع بين مصر وبقية الدول الأفريقية، خاصة بعد محاولة اغتيال مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والتي قيل إن المخابرات السودانية تورّطت فيها، ما أدى إلى عزلة مصرية عن القارة، حتى خلع مبارك من الحكم في عام 2012. مع ذلك، كانت هناك في عهد المخلوع محاولات للتعاون ارتبطت بـ«مبادرة حوض النيل» التي خرجت كشراكة إقليمية عام 1999 واستمرّت حتى عام 2010، من دون أن تجني مصر منها أيّ فائدة في ظلّ تجاهل السياسيين في القاهرة التعاون مع الدول الأفريقية التي زاد غضبها من الغرور والتعالي المصريَّين في التعامل مع القضايا الأفريقية عامة.في المقابل، وعلى مدار سنوات، سعى رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل، ميلس زيناوي، إلى تقديم نفسه كحاكم يعمل على تحقيق مصلحة بلاده، ويرغب في إنهاء ما سمّاها «السيطرة المصرية على نهر النيل»، فبدأ مشروعه الأول بـ«سدّ تيكيزي» الذي وافقت مصر على إنشائه، ليعيد عقب ذلك مشروع «سدّ النهضة» إلى الواجهة بتحالفه مع دول المنبع، ثم يعلن المشروع في عام 2011 بعدما كانت تَغيّرت سعة السدّ وتضاعفت أكثر من أربع مرّات، باستغلال الانشغال المصري بالأوضاع الداخلية. صحيح أن استغلال الأنهار الدولية يجري وفقاً لأحكام القانون الدولي، لكن طبيعة علاقة مصر بدول حوض النيل أدّت إلى غياب اتفاقية جامعة تُنظّم حق استغلال النهر، خاصة في ظلّ إشكالات حول أولويات الانتفاع المنصف بمياه الأنهار الدولية. ومع أن هذا المبدأ يقتضي التزام الدول المشاطئة للنهر الدولي كافة بالتعاون لتحقيق أقصى استفادة، فإن احتياج إحدى الدول إلى حصة أكبر من التي كانت تحصل عليها لأسباب لها علاقة بالتنمية يقلب المعادلة.
فكرة «النهضة» قديمة وتعود إلى السبعينيات لكن طبيعة المشروع تَغيّرت كثيراً


ثمة عامل آخر عمّق المشكلة هو قِدَم الاتفاقات الناظمة التي يعود تاريخها إلى عام 1891، والتي تبعتها اتفاقات وبروتوكولات منها ما هو موقّع أصلاً بين الدول المستعمِرة (بريطانيا وإيطاليا)، أو بين المستعمَر والمستعمِر (بريطانيا وإثيوبيا). أما أبرز الاتفاقيات المباشرة بين الأطراف المعنيين فهي «اتفاقية 1993» الموقّعة بين أديس أبابا والقاهرة، والتي تَعهّد فيها كلّ من الطرفين الامتناع عن أيّ نشاط يؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالح الطرف الآخر في ما يخصّ مياه النيل. ولا تزال مصر تتمسّك بأن المعاهدات المبرمة لا يمكن التحلّل منها، وفق ما تنصّ عليه المادة 11 من «اتفاقية فيينا» في شأن التوارث الدولي في مجال المعاهدات لعام 1978. وفي نصوص الاتفاقات الدولية، تعطي دول النيل الأولوية للحقوق التاريخية، وهو ما تحاول إثيوبيا الآن التملّص منه، مُتسلّحة بالحصانة التي اكتسبتها «اتفاقية عنتيبي» بإجماع دول الحوض، باستثناء مصر والسودان اللذين يتمسّكان بأحقيّتهما تاريخيّاً في استخدام مياه النيل بلا عوائق، وخصوصاً أن التصويت بالغالبية على أيّ مشروعات يجري تنفيذها على مسار النهر سيجعل هذين البلدين، وهما دولتا المصبّ، في حالة ضعف.
وعلى رغم محاججة إثيوبيا الدائمة بأن الغرض من بناء السدّ استغلاله في الأغراض التنموية، إلا أن رفضها القاطع الإقرار بحصة مصر التاريخية في النيل، وإصرارها على تنفيذ السدّ بمواصفاته الحالية من دون تعديل، يعكسان تعنّتاً كبيراً على رغم التنازلات المصرية. مع ذلك، لا يشفع الموقف الإثيوبي للقاهرة في حقيقة أنها أضاعت فرصاً كثيرة لحلّ الأزمة، سواء بتجاهلها موافقة دول النيل على «عنتيبي»، أو بإهمالها جميع التقارير الفنية عندما كان السدّ مجرّد فكرة في أواخر السبعينيات.