كعادته في المؤتمرات الدورية الّتي تشهدها مصر منذ تسلمه الحكم، أدلى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بسلسلة تصريحاتٍ إشكالية، مثّلت في اليومين الماضيين مادةً دسمة لمنتقديه على مواقع التواصل الاجتماعي. بين قضية إعادة إعمار سوريا، و«أزمة البطاطس»، والوزن الزائد لدى الشباب، تنوّعت تصريحات السيسي في «منتدى شباب العالم»، الذي انعقد في شرم الشيخ هذا الأسبوع. إلا أن تصريحاته عن «البطاطس» (البطاطا)، جاء الأكثر استفزازاً للمصريين الذين يعانون منذ عامين من تبعات سياسات التقشف التي تجريها الحكومة، ضمن شروط صندوق النقد الدولي عليها. وتندرج هذه التصريحات ضمن مواقف مماثلة أطلقها السيسي في السنوات الماضية، حين كان يدعو المصريين مراراً إلى المزيد من التقشّف «عشان مصر»، علماً بأن الغلاء المعيشي الذي تبع تعويم الجنيه لم يبقِ مجالاً أمام معظم المصريين، الذين بالكاد يجدون قوت يومهم، لأي «تقشف» إضافي.
بعد تصريحه الشهير «هَنجوع؟ نجوع.. ايه المشكلة»، الذي تلاه كلامٌ عن امتلاكه زجاجة مياه فقط طيلة عشر سنوات، جاء تصريح السيسي الأخير عن البطاطا في السياق نفسه. في اليوم الأول من أعمال المؤتمر هذا الأسبوع، تحدّث السيسي عن إمكانية ألا يحصل موظفو الدولة هذا العام على الزيادة السنوية في الأجور (العلاوة). كلامه جاء في سياق مطالبته الحكومة والمواطنين بتحمّل تكلفة توفير مبلغ 130 مليار جنيه لبناء 250 ألف فصل تعليمي، حتى تصل كثافة الفصول إلى 40 طالباً. وقال السيسي: «كيف نبني قادة المستقبل؟ لازم الحكومة وإحنا كلنا نشوف حل ونعمل 250 ألف فصل بتكلفة 130 مليار.. أقول كلام صعب، اخصموا المبلغ من الوزارات كلها.. أقول كلام أصعب مش هنطلع علاوة دورية السنة دي للموظفين في مصر».
عند هذه النقطة استطرد متسائلاً «عاوزين تبنوا بلادكم وتبقوا دولة ذات قيمة ولا هَتدوّروا (تبحثون عن) البطاطس بـ11 جنيه و12 جنيه و13 جنيه.. خلوا بالكُم من بلدكُم.. البلاد مش بتتبني كده.. البلاد بتتبني بالمعاناة والأسية». وكان غلاء البطاطا قد شكّل حديث الساعة في الأسبوعين الأخيرين في مصر، بعد ارتفاع سعر الكيلوغرام الواحد من ستة جنيهات إلى 14 جنيه (الحدّ الأدنى للأجور في مصر 1200 جنيه)، علماً بأن «البطاطس» سلعة أساسية وتُعتبر «صديقةً للفقراء» وتحلّ على المائدة المصرية تاريخياً مكان اللحمة التي تُعدّ صعبة المنال لشرائح واسعة من فقراء مصر.



سؤال السيسي أثار الجدل والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، في اليومين الماضيين، لا سيما في ظلّ المصاعب المعيشية التي يعيشها المصريون. كذلك، فإن المقارنة بين «بناء دولة ذات قيمة» والاهتمام بسعر البطاطس، حملت في داخلها نوعاً من الكوميديا السوداء، وكأن القدرة على الحصول على هذه السلعة الأساسية (لا نتحدث عن الكافيار مثلاً) تندرج ضمن الصغائر التي تعيق «بناء دولة ذات قيمة».
وقد أظهر استطلاع ساخر للرأي على موقع «فايسبوك»، أجرته صفحة إخبارية (عادت ومحت الاستطلاع) أن 89 في المئة من بين نحو 24 ألفاً شاركوا بآرائهم يفضلون «تناول البطاطس» على «بناء دولة ذات قيمة».
(من الويب)

كلامُ السيسي ذكّر بأعمال فنية قاربت هذا النوع من الخطابات، غير الجديدة على المصريين الذين يرزحون تحت وطأة الفقر منذ عقود طويلة: «أبوك يموت من الجوع تقوم تعيش في البذخ والفشخرة اللي انت فيها دي؟» يسأل الزعيم المواطن الذي يدخل إليه بلباسٍ ممزّق تماماً، في مسرحية «تخاريف» (1988). استخدم الناشطون هذا المقطع مراتٍ عدة، لمحاكاة تكرار السيسي طلب التقشف من الشعب.
«الشعب لا بدّ أن يكون فقيراً، الفقراء يدخلون الجنة»، هي جملة شهيرة من مسرحية «الزعيم» (1993)، تحاكي أسلوب السيسي في محاولة إقناع المصريين بأن الفقر الشديد هو السبيل الوحيد إلى الوصول إلى غدٍ أفضل، ولو أن الوعد هنا بدولة عظيمة، لا بالجنة بعد الموت.
وصولاً إلى جملة من قصيدة «قُل أعوذ» للشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم: «كَل غدانا، قام لاقانا شعب طيّب، كَل عشانا» التي تعود إلى عام 1968، أي قبل خمسين عاماً من وصول زعيم يعيب على الناس الاهتمام بسعر «البطاطس».
ومعروفٌ أن مصر تلتزم، منذ عام 2016، بإجراءات التقشف بمقتضى قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار يهدف إلى جذب الاستثمار الأجنبي.
بموجب هذه الإجراءات، خفضت مصر وفقاً لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، قيمة عملتها وتوقف تدريجياً دعم الوقود بالإضافة إلى رفع أسعار السلع الغذائية والمواصلات.




وقبل أن يحجز تصريح «البطاطس» مكان الصدارة، كان السيسي قد أدلى بتصريحات مثيرة للجدل بشأن إعادة الإعمار في سوريا. وقال إن سوريا تحتاج من 300 مليار إلى ترليون دولار لإعادة الإعمار. وتساءل: «هل يوجد شخص يسلم مبلغ 300 مليار دولار لدولة ما»، متابعاً «مش انت اللي كسرتها؟ مش انت خربتها؟ أصلحلك أنا ليه؟.. لا أنا ما أصلحلكش، أنا أصلح بلدي، وأبني بلدي ولشبابي». غير أن هذا التصريح وُضع في سياق مخالف لما فهمهه معظم المشاهدين، إذ يُعتقد أن السيسي كان يوجه الحديث ضمناً للمصريين لا إلى السوريين، في إطار تحذيره المستمر من أي محاولة للتغيير أو لإعادة تجربة «25 يناير» التي يشيطنها بعض أركان النظام الحالي في مصر.
إلى ذلك، سُجّل للسيسي في هذا المؤتمر تصريحات مهمة عن حرية العبادة، عندما قال للمرة الأولى: «الدولة معنية في بناء كنيسة في كل مجتمع جديد حتى القديمة، لأن لهم الحق فى العبادة كما يعبد الجميع، ولو إحنا عندنا ديانات أخرى سنبني لهم دور عبادة، ولو عندنا يهود هانبنلهم، لأن ده حق المواطن في عبادة كما يشاء، أو لا يعبد لأن ده موضوع منتدخلش فيه»، وهو ما يُعدّ إشارة أولى من نوعها في هذا المجال. لكن تصريح السيسي على أهميته، رآه البعض أنه يظلّ ناقصاً طالما أن الدولة في مصر لم تظهر أفعالاً جادة بعد للقضاء على التزمّت الديني في المجتمع.