القاهرة | يبدو المشهد سينمائياً تراجيدياً بامتياز. صوت في الخلفية يعيد التذكير بأصوات الرواة في الأفلام المصرية الكلاسيكية، لينطق باللازمة السحرية: «مش أحسن ما نكون زي سوريا والعراق؟».هو شكل من أشكال «الإرهاب الفكري» العابر للصحف والقنوات الفضائية الحكومية، أو المملوكة لأجهزة الدولة المصرية بشكل شبه رسمي، ناهيك عن اللجان الإلكترونية التي تسيطر على مساحات كبيرة ضمن منصات التواصل الاجتماعي، في مواجهة صرخات المواطن البسيط تحت وطأة القرارات الاقتصادية المؤلمة، التي يتحمل تبعاتها المهلكة يوماً بعد يوم.
بهذه الأساليب، بات المواطن المصري أكثر استسلاماً وخوفاً من ذلك «المصير المجهول»، الذي قد يواجهه إن اعترض على قرار حكومي، مهما كانت درجة قسوته. المثير للسخرية، في معرض الحديث عن تلك «اللازمة السحرية» أن «شبكة حلول التنمية المستدامة» التابعة للأمم المتحدة، أدرجت مصر أخيراً، في المرتبة 122، ضمن قائمتها للدول الأكثر سعادة في العالم، بينما تقدّم العراق على مصر، ليحل في المرتبة 117، في حين تفوقت ليبيا والصومال وفلسطين عليهما في المراكز 70 و98 و104 على التوالي.
في المرحلة الأخيرة، اعتاد المصريون أن يستقبلوا مساء الخميس بقرارات مؤلمة، تقول الحكومة إنها «تصب في مصلحتهم». آخر تلك القرارات كان يوم الخميس الماضي، وتمثلت في رفع سعر تذكرة المترو. هذا القرار فجّر غضباً شعبياً متصاعداً، قوبل بإجراءات أمنية قمعية تمثلت في توقيف عدد من المواطنين في محطات متفرقة، إما بسبب اعتراضهم على رفع التسعيرة، أو لمحاولتهم الالتفاف على ماكينات التذاكر.
كما جرت العادة، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات الغاضبة أو النكات والـ«كوميكس» التي تسخر من القرار الخاص بالمترو. في المقابل، انطلقت حلقة التبريرات المعتادة من جانب من يسمّون «الدولجية»، وهو مصطلح يطلق على المؤيدين للدولة المصرية على طول الخط، بصرف النظر عن صحة قراراتها من عدمها، وهم في بعض الأحيان يشكلون جزءاً من «اللجان الإلكترونية»، التي تم الكشف عن وجودها في مناسبات عدّة، والتي تستخدم حسابات وهمية لنشر تبريرات بعينها، أو محاولة توجيه الرأي العام في وقت واحد بآراء متشابهة في توقيت متزامن.
صحيفة «اليوم السابع» (خاصة ـــ مقربة من الحكومة) دشنت الصفحة الأولى في «كاتالوغ» تبرير القرار، حيث نشرت مادة صحافية، أظهرت أسعار تذاكر المترو حول العالم، وبدأت بالدنمارك، حيث قيمة تذكرة المترو 4.60 دولارات، وبعدها السويد (4.20 دولارات)، وسويسرا (3.80 دولارات)، وقارنتها بمثيلاتها في مصر. استفزت تلك المعلومات القراء الذين أضافوا إلى الرسم البياني المنشور في تلك الصحيفة، خانة توضح متوسط مستوى الدخل الشهري في هذه الدول، والذي جاء على النحو الآتي: 6657 دولاراً في الدنمارك، و4803 دولارات في السويد، و4320 دولاراً في سويسرا، مقارنة بـ 288 دولاراً في مصر، لتصبح التذكرة في مصر هي الأغلى في العالم.
«التوكتوك» وهو وسيلة للتنقل في الأحياء الشعبية المصرية كان حاضراً في «كاتالوغات» تبرير قرار رفع أسعار تذاكر المترو، حيث بدأ «الدولجية» بمقارنة ما يدفعه المواطن على «مشوار التوكتوك» (10 جنيهات) بأعلى فئة في تذاكر المترو الجديدة (7 جنيهات)، وهو ما يخالف الحقيقة الثابتة بأن هناك اتفاقاً ضمنياً على سعر عادل للتنقل بهذه الوسيلة الشعبية، لتبدأ بجنيهين للمسافات القصيرة، مروراً بخمسة جنيهات للمسافات المتوسطة، وعشرة جنيهات للمسافات الطويلة جداً.
صفحة جديدة في «كاتالوغ» التبرير لقرار رفع تذكرة المترو، جاء تحت شعار «عيش عيشة أهلك»، إذ نشرت صحيفة «الوفد» تحقيقاً في عددها الصادر في أول أيام تطبيق الزيادة المقررة على تذاكر المترو، حول استهلاك المصريين للسلع «الاستفزازية» بقيمة 327 مليون دولار خلال 8 أشهر.
يتبارى «الدولجية» لتبرير القرارات الحكومية، في مهمة تبدو مقدّسة


وأسهب التحقيق في الحديث عن الإسراف الذي ضرب المجتمع، ومستوى الاستهلاك الترفي الذي يهدر الثروات، ويتسبب للاقتصاد بالخطر، بل يجعل الأسر غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية بسبب هذه السلوكيات، ليبرر بشكل غير مباشر القرارات الاقتصادية، ويجعل لها سنداً وحجة، وهي «أننا شعب غير مسؤول يهدر ثرواته، ويرفض الإصلاح الاقتصادي».
نواب البرلمان، بدورهم، رفعوا شعار «التبرير علينا حق» في تصريحاتهم الصحافية، فاتهم النائب محمد الكومي، عضو مجلس النواب عن حزب «المصريين الأحرار»، جماعة «الإخوان المسلمين» بأنها تقف وراء التحريض ضد الدولة المصرية، عن طريق بث الفوضى باستغلال تحريك سعر تذاكر المترو، فيما اعتبر النائب أحمد سمير أن قرار زيادة أسعار تذاكر المترو كان قراراً حتمياً نتيجة الخسائر التي تعرض لها هذا المرفق، وأن زيادة الأسعار «مثل الدواء المر»، لافتاً إلى أن وسيلة النقل هذه لا تزال تعد من أرخص وأفضل وسائل المواصلات في مصر، في حين خيّر النائب محمد الكومي المواطنين بين رفع الأسعار وانهيار الخدمة!
«كاتالوغات التبرير» جاهزة لكل قرار. قبل أشهر، وقع خبر تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر كالصاعقة على المصريين، بعدما توقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل بثمن بخس عقب «ثورة 25 يناير». الأغرب أن هذا الخبر جاء متزامناً مع الإعلان عن اكتشاف «حقل ظهر» الذي قالت الحكومة المصرية إنه أعظم اكتشاف غازي في تاريخ مصر، وأنه سيحل كل مشكلات مصر الاقتصادية.
كالعادة، تبارى «الدولجية» لأداء المهمة المقدّسة. الباحث الاقتصادي في قناة «دي أم سي» محمد نجم، على سبيل المثال، برر الخطوة المثيرة للجدل بالقول إن إسرائيل ستستأجر فقط البنية التحية المصرية لتسييل الغاز الإسرائيلي ونقله إلى عملائها في أوروبا، لأن مصر الدولة الوحيدة التي تمتلك هذه الإمكانات، موضحاً أن مصر ستربح مادياً من تسييل الغاز في مصانعها وستربح معنوياً من كونها مركزاً للطاقة في المنطقة.
قرار آخر قبل أشهر، ربما يكون قد كسر كل الخطوط الحمر في سلوكيات التبرير، إذ سجل معدل التضخم ارتفاعاً بعدما خفضت مصر قيمة الجنيه في تشرين الثاني عام 2016 ووصل إلى مستوى قياسي في تموز عام 2017 بفعل خفض دعم الطاقة، لكن التضخم انخفض تدريجياً حتى الشهر الماضي الذي شهد ارتفاعاً في التضخم الأساسي.
الخبير الاقتصادي، خالد الشافعي قال إن تقارير دولية أفادت بأن مصر ستصبح ثالث أسرع اقتصاد نمواً في العالم خلال العقد المقبل، وأضاف في تصريحات تلفزيونية، أن معدلات النمو ارتفعت خلال العامين الماضيين إلى 5.3 في المئة، مؤكداً أن عام 2026 سيشهد تحسناً كبيراً في الاقتصاد المصري.
تعيد تبريرات خبراء الاقتصاد للإجراءات الاقتصادية التقشفية، إلى الأذهان المشهد الذي خيّم على مصر قبل «ثورة 25 يناير»، حين كان أحمد عز، أمين سياسات «الحزب الوطني» يكرر أن زيادة استهلاك المواطنين لمكيفات الهواء يعني أنهم يعيشون في رفاهية، وهو ما ينطبق على زيادة معدلات امتلاك السيارات الخاصة. وهذه التصريحات كانت تثير الغضب الممزوج بالسخرية، وكان الاقتصاديون التابعون لـ«الحزب الوطني» يتهافتون على تبريرها بذات «الكاتالوغ».
على هذا الأساس، يقول «الدولجية»، اليوم، إن الإنجازات التي تحققت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وحكومته، ستستفيد منها الأجيال القادمة، من دون أن يكشفوا عمن سيتحمل أرقام الديون الضخمة الداخلية والخارجية، ومن سيسدد فوائدها المتراكمة، ومن سيخفض من آثار البطالة المتزايدة، والتضخم الذي يبتلع أي تحسن في معيشة الناس، والأسعار الملتهبة، وغيرها.
«كاتالوغ» التبريرات يناقض بطبيعة الحال الدراسات الجدّية، لا بل يستخف بها! من بين تلك الدراسات، واحدة أعدها الخبير الاقتصادي والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط سفيان العيسة لمركز «كارنيغي» بعنوان «الاقتصاد السياسي للإصلاح في مصر... فهم دور المؤسسات»، وقد أكد فيها أن جهود الإصلاح الاقتصادي في مصر تعاني من غياب التنسيق مع السياسات الاجتماعية ومختلف السياسات القطاعية، وتزيد من حدة المشاكل خلال فترة الإصلاح مع عجز عن التخفيف من عواقبه السلبية في حياة الناس اليومية، وهو ما جعل المواطنين غير مقتنعين بجدواها، لأنها فشلت في تحسين الشروط الاقتصادية ومعايير حياة المواطن، فضلاً عن عدم تمكن الأنظمة المتعاقبة من إجراء إصلاح إداري في الوزارات المعنية، ما يجعل البيروقراطية والإنفاق الحكومي غير الرشيد وغيرها من العوامل عوائق أمام الإجراءات الإصلاحية.
وزاد من حدة الفشل، وفق الدراسة، غياب آليات نقاش الإصلاح بين مختلف الأطراف المعنية، حيث تقتصر المشاركة في صنع السياسات وتطبيقها على النخبة الحاكمة والمقربين منها في مجال الأعمال والمجتمع السياسي، وسط غياب مشاركة المعنيين الآخرين. فإذا ما طبقت الحكومة إصلاحاً، فإنه ينبع من أعلى الهرم وصولاً إلى مستوياته الدنيا، عملاً بطلب المؤسسات المالية الدولية من دون استيعاب جميع الأطراف المعنية على أنهم لاعبون مهمون في عملية الإصلاح.
لم تُغلق صفحات «كاتالوغ» التبريرات للقرارات الاقتصادية الحكومية التي تنغّص حياة الغالبية العظمى من المصريين، لأن «الدولجية» يرفعون شعار لا تراجع ولا استسلام مهما كان الثمن، لكن الحياة اليومية للمصريين تزداد صعوبة مع كل إجراء اقتصادي تقشفي، بدءاً من تحرير سعر صرف الجنيه، مروراً بالزيادة السنوية في أسعار المحروقات، وزيادة أسعار الكهرباء والمياه وغيرها من الخدمات، وأخيراً زيادة أسعار تذاكر المترو، وهذا كله من دون خطة واضحة المعالم توضح للمواطن متى سيكون هناك تحسن في معيشته يتوافق مع الوعود الدائمة التي يتلقاها، هذا إن كانت هذه الوعود صادقة.