أربعة أشهر مضت على قطع راتب تحرير عودة. ذنب أستاذة التعليم الثانوي الرسمي أنها رفضت أن تستدين أو تبحث عن عمل آخر لتذهب إلى عملها. ببساطة، هي مقتنعة بأن العلاقة الصافية بين الدولة والموظف تقضي بأن يقوم الموظف بالخدمة المطلوبة منه مقابل أن يحصل على مبلغ يمكّنه من العمل والعيش من دون أن يطرق باب أحد. وهذا كان دأبها، على ما تقول، إذ أعطت الوظيفة أكثر من المطلوب، «ليس لشيء إلا لأنني كنت مؤمنة بأن وظيفتي ستحملني في آخرتي».
كيف يؤدي المكلّف واجباته إذا لم يحصل على حقوقه

على مدى 23 سنة، تركت عودة بصمات في تعليم الفيزياء، ونسجت علاقات مميّزة مع طلابها، ونشطت في المجال الحقوقي والنقابي ودفعت، بشهادة عارفيها، ثمن مواقفها الصلبة، ولا سيما في انتفاضة 17 تشرين، إذ اتُّهمت بالحكي بالسياسة في الصف، ونُقلت إلى ثانويات ووُزع نصابها في أكثر من ثانوية. كان هذا الرهان على الدور والوظيفة يوم «كنت آخذ حقي منها وأتعب على إعداد مسابقات نوعية وأناضل من أجل حقوق الأساتذة والطلاب، بخلاف الواقع المخزي الذي أوصلونا إليه: راتب هزيل وتغطية صحية معدومة، وحياة نقابية غائبة». عودة ذهبت أكثر لتقول: «لو كنا في بلد ينفذ محاكمات عادلة، لكنت رفعت الدعوى ضد من أفقدني إحساسي بذاتي وبإنتاجيّتي وجدوايَ كشخص يؤدي مهنة ويبرع فيها».

«السرطان استنزفني»
عندما بدأ العام الدراسي الحالي بعد تعليق الإضراب النقابي، كانت عودة تتابع علاجها لمرض السرطان «الذي استنزف كلّ مدّخراتي، ولم يبق عندي ما أبيعه سوى سيارتي وبيتي. بقيت سنة ونصف سنة غير قادرة على إجراء فحوصاتي الدورية الملزمة كلّ 3 أشهر»، فيما الانتقال إلى ثانويتها يحتاج إلى 8 صفائح بنزين شهرياً، يعني أكثر من راتبها. يومها، لم تقف في طوابير البنزين وقرّرت أنها لن تعود إلى الصف ما لم تقدم لها مديرية التعليم الثانوي حلولاً، إما عبر نقلها إلى ثانوية قريبة من منزلها أو عبر إعطائها بدل نقل «وهنا اكتشفت أن بعض الأساتذة المحظيين يحصلون على بدلات استثنائية من هذا النوع». كان الجواب أن اسم عودة سيكون من بين 176 أستاذاً ثانوياً ستحوّل ملفاتهم على الإقالة بتهمة الانقطاع عن التعليم، علماً أنها دأبت على التوقيع على دفتر الدوام مرة كلّ 15 يوماً. «وبحساباتي إن الـ 15 يوماً هي أيام عمل، ولم يلفت أحد نظري إلى أنها يجب أن تكون 15 يوماً متتالية (باعتبار أن الحضور كلّ 15 يوماً يكسر الانقطاع وفق نظام الموظفين)، بمن فيهم مديرة الثانوية التي أعمل فيها». في 8 آذار الماضي، قرّرت المديرة منع عودة من التوقيع على دفتر الدوام، وعندما سألت الأستاذة الثانوية المفتش التربوي ما إذا كان يحقّ لمديرة الثانوية أن تمنع أستاذاً من التوقيع، أجابها بالنفي «لكنه لم يفعل شيئاً عندما كرّرت ذلك لاحقاً في حضوره».

سلوك إداري تعسّفي
وكانت عودة قد حرّرت كتاباً إلى مديرية التعليم الثانوي، عبر مديرة الثانوية، شرحت فيه بإسهاب أسباب عدم قدرتها على الحضور إلى صفها، وأودعت نسخة من الكتاب المفتشية العامة التربوية والتفتيش المركزي. إلا أن القضية أخذت، بحسب عودة، «مساراً تعسفياً وكيدياً قوامه الإنكار للوضع المأسوي الذي يمرّ به الأستاذ من بعض الموظفين في المديرية الذين يخدمون الأحزاب السياسية التي وضعتهم في الموقع الوظيفي وليس الوظيفة». سمعت عودة خطاباً استعلائياً يقترب من الاسترقاق للأساتذة واتهامهم بأن لديهم أمية قانونية وإدارية من قبيل «روحي تديّني كلنا عم نتديّن، أو اعملي خير لطلابك، أو فتشي عن شغل تاني...». وهنا استدركت عودة: «الجميع يلومني على اللهجة الحادّة التي أتكلم فيها على وسائط التواصل الاجتماعي، لكنّ وقاحة موظفين الذين يفترض أن يتمتعوا بالمهنية والمؤسساتية والمناقبية، يجب أن تقابل بالوقاحة نفسها وقول الأمور كما هي، فقد جرّبنا التورية وعدم المواجهة لسنوات ولم تنفع».

انتقادات للرابطة
الحدّة والصلافة لا يلغيان، بحسب عودة، «حقيقة ما أثيره في كتاباتي عن أداء وزير التربية والرؤساء المتعاقبين لرابطة أساتذة التعليم الثانوي وغياب الرابطة عن معاناة الأساتذة وكأنها في كوما، فمن حق أيّ مواطن مثلاً أن يعرف أين ذهبت الأموال التي رُصدت للتربية والتعليم بغية تسيير عام دراسي طبيعي». بحسب عودة، «لم يفهم أيّ من الأساتذة كيف تكون الحوافز (90 دولاراً في الشهر) مشروطة، وكيف حُرم منها من حصر كلّ نصابه في 3 أيام، بدلاً من 4، وكأنّ المطلوب عدد الأيام وليس الإنتاجية». تسأل عودة رئيسة رابطة التعليم الثانوي الرسمي التي رفعت عليها شكوى أمام مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية اعتراضاً على شتائم وجّهتها إليها، فيما يفترض أنها ارتضت بتسلّم مسؤولية في الشأن وعليها أن تتحمّل الانتقاد «ماذا فعلتِ لأساتذة أصبحوا أمواتاً على قيد الحياة وبات أقصى طموحهم تأمين الخبز الحاف لأولادهم وأجرة الوصول إلى ثانوياتهم؟ هل حاولتِ أن تسمعي حكايات مأساتهم بدلاً من معاونة الوزارة على جمع أسماء غير القادرين على الوصول إلى عملهم؟».
حتى اليوم، ليس في حوزة عودة أي ورقة خطية ورسمية تثبت أنها أصبحت خارج الوظيفة، آخر ما سمعته من مدير التعليم الثانوي قوله لها: «بدنا نشوف كيف بدنا نطلعك من هالمعضلة». هي مقتنعة بأنه ليس هناك أي نصّ قانوني يسمح لمدير التعليم الثانوي أن يقطع راتبها، فموظفو الوزارة وأعضاء الهيئة النقابية يحملون هراوة ما يسمونه قانوناً، فيما لا يحق لهم أن يطالبوا المكلّف بتأدية واجباته، إذا لم يحصل على حقوقه، «رواتبنا باتت تلامس الحدّ الأدنى للأجور الذي بات يُقدّر، بحسب مؤشر الغلاء، مليونين و600 ألف ليرة لبنانية».