ما بين شهرَيْ تشرين الأول وكانون الأول من العام الماضي، نظّم المركز التربوي للبحوث والإنماء دورات تدريبية «عن بعد» لأساتذة التعليم الرسمي الأساسي ضمن مشروع التقويم التكويني. يومذاك، أعلم المركز الأساتذة المشاركين أن تلك الدروات «مدفوعة الأجر» لتغطية التكاليف التي سيتكبّدها الأساتذة لقاء طباعة الأوراق والمستندات، وهو ما زاد، ربّما، من حماسة هؤلاء للمشاركة، خصوصاً أن القيمة التي ستُدفع كانت بحدود 649 دولاراً أميركياً.
صدرت الشيكات مع بدء تنصّل المصارف من صرفها (هيثم الموسوي)

طوال فترة التدريب، ساد الاعتقاد لدى الأساتذة بأن القبض سيكون بالدولار «الفريش»، خصوصاً أن هذه القيمة مغطاة من البنك الدولي، غير أن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر إذ فوجئ الأساتذة أن المبالغ المرصودة لن تُصرف بالدولار مباشرة، وإنما حُدّد الدفع بطريقتين: إما بـ«اللّولار»، على أن تُصرف على أساس سعر منصة مصرف لبنان، أو بالشيك المصرفي. وبما أن معظم الأساتذة لا يملكون حسابات بالدولار الأميركي لتحويل المبالغ إليها، كان خيارهم القبول بالشيكات المصرفية.

شيكات مرتجعة
ابتلع الأساتذة خبر «الشيكات» على مضض، إلا أنهم قبلوا بالواقع، خصوصاً أن المصارف في تلك الفترة كانت لا تزال تصرف تلك الشيكات، وإن بسقوف محدّدة. غير أن ما لم يكن في حسبان هؤلاء أن يتأخر المركز التربوي للبحوث في إجراءاته لتصدر الشيكات ابتداءً من مطلع نيسان الماضي، حيث كانت المصارف قد بدأت تتنصّل من الشيكات المصرفية، ووصل الأمر ببعضها إلى الامتناع علانية عن صرفها وإحالة أصحابها إلى الصرّافين.
حتى اللحظة، لم يستطع كثر من الأساتذة الذين خضعوا للتدريب صرف الشيكات. الكلمة التي ملّ هؤلاء من سماعها هي كلمة «مرتجع»، تقول إحدى المعلمات من شمال لبنان. تروي هذه الأخيرة قصّتها مع شيك المركز التربوي، فتشير إلى أنها ذهبت لتسلّمه من دار المعلمين والمعلمات، وفي طريق العودة مرّت على مصرف لبنان علّها تقبض منه شيئاً «فقالوا لي عليك أن تضعيه في حساب في أحد المصارف كي تتمكني من صرفه». لجأت الأخيرة إلى المصرف «حيث أوطّن معاشي»، إلا أنه لم يصرفه لها، فذهبت إلى مصرفٍ آخر لفتح حسابٍ، إلا أنها لم توفّق في 3 مصارف، لكونها «لا تفتح حسابات في الفترة الحالية». قبل أيامٍ، لجأت إلى أحد أصدقائها الذي يملك حساباً بالدولار «أعطيته الشيك ليصرفه لي، إلا أنه أعاده لي في اليوم التالي وقال لي ما بينصرف». في محاولتها الأخيرة، لجأت المعلمة إلى أحد الصرّافين، فكان الجواب بإعطائها «14% من قيمة الشيك»!
لجأت معلمة إلى أحد الصرّافين فعرض تسليمها 14% من قيمة الشيك


لم تعش المعلمة تلك المعاناة وحدها، إذ إن كثراً لاقوا المصير نفسه، ومنهم معلمة في منطقة الجنوب حاولت هي الأخرى أن تعطي الشيك لواحد من أقربائها يملك حساباً بالدولار، إلا أنها عادت خائبة ولا تزال. كانت الاحتمالات بالنسبة إليها أن تقبض هذا الشيك «على حساب سعر المنصة الذي يحدّده مصرف لبنان بثمانية آلاف ليرة كما قالوا لنا»، إلا أن المؤسف بالنسبة إليها أنها لم تصل حتى إلى هذه المرحلة إذ لا تزال تفتّش عن حساب مصرفي بالدولار مقبول لدى أحد المصارف لوضع الشيك.
«سخروا منا ووقّعنا بأننا قبضنا شيكات بالدولار من دون أن نكون قد استفدنا شيئاً»، تقول إحدى المعلمات. تأسف هذه الأخيرة أن يصبح التعاطي مع الأستاذ «وكأنه متسوّل»، مشيرة إلى أنها ستتقدّم إلى التفتيش بشكوى ضد المركز التربوي على «استغبائنا»، مستغربة كيف يمكن أن يُعطى الأساتذة شيكات مصرفية ويُطلب منهم تحصيلها من المصارف، فيما الأخيرة «لا تصرف لنا رواتبنا».

الحلّ عند الصرّافين!
إلى ذلك، يشير سامر سيف الدين، رئيس قسم الرياضيات في المركز التربوي للبحوث والإنماء، وهو أحد المتابعين لـ«الأزمة» مع الأساتذة إلى أن لا علاقة للمركز بما يجري، إذ إن «الآلية كانت واضحة منذ البداية». ويلفت إلى أنه تابع مع الأساتذة الذين لم يقبضوا وتواصل مع جمعية المصارف التي أصدرت أواخر أيار الماضي تعميماً توصي بموجبه المصارف بقبول الشيكات المصرفية التي لا تفوق قيمتها الـ15 ألف دولار أميركي. وهو ما لم تلتزم أصلاً به المصارف. ما الحلّ إذاً؟ لئن كان سيف الدين لا يملك جواباً يرشد الأساتذة إلى كيفية تحصيل حقوقهم، لا تجد مصادر أخرى في المركز حرجاً من الطلب إلى الأساتذة اللجوء إلى الصرّافين، على اعتبار أنه «خذوها قبل أن تخسروها، فإذا كنتم تعرفون صرافاً يعطي نسباً أكثر من غيره اذهبوا إليه»، وعلى اعتبار أن ما يحدث معهم «متل كل يللي صاير بالبلد».
المفارقة هنا أن المركز التربوي الذي يُجري التدريب بالتعاون مع البنك الدولي كان يعرف مسبقاً أن كلّ الأمور في البلاد تسري على تلك الشاكلة، مع ذلك وافق على تسليم رقاب الأساتذة للمصارف والصرّافين. والمفارقة الأكبر أن هذه المصارف نفسها التي تمتنع عن صرف بضعة دولارات للأساتذة هي نفسها التي تقبل من الناحية الأخرى أن تصرف مبالغ بمئات آلاف الدولارات للصرّافين!