لم يشهد التعليم الرسمي تحديات كما اليوم. إذ لم يكد يستعيد ثقة اللبنانيين به في السنوات الأخيرة، بعد إهمال لعقود قوّضت خلالها السلطة السياسية فعّاليته عبر المحسوبيات والتنفيعات، حتى ألمّت به أزمات جديدة تفوق إمكاناته الضعيفة، بدءاً من وباء «كورونا»، مروراً بضعف الموازنة المرصودة له، ومعاناة صناديق المدارس من شحّ وعجز كبيرين، وعدم قدرتها على تأمين المستلزمات اللازمة لتسيير عمل المدرسة وسط ارتفاع سعر الدولار.يأتي ذلك في ظل أزمات إضافية تتمثّل في تضخم أعداد المتعاقدين، وعدم تأهيل الكادريْن الإداري والتعليمي، وأزمات معيشية تلاحق المعلمين الذين خسرت رواتبهم أكثر من 80% من قيمتها وجعلتهم في عداد الفقراء، وانعدام الموارد التعليمية الكافية واللازمة لعملية التعليم عن بُعد والتعليم الحضوري أيضاً.

(مروان طحطح)

في خضم هذه الأزمات، يبقى تلميذ المدرسة الرسمية هو الضحية الأكبر والحلقة الأضعف. فهو يدفع فاتورة كل ما يعانيه التعليم من صعوبات، ويسدد تكاليف السياسات التربوية الرديئة والباهظة الثمن من جودة تعلّمه ومن مستقبله الذي يضيق أفقه في دولة مشلولة، وسلطة أهملت المدرسة الرسمية عن سابق إصرار، لأن كل همّها حماية كارتيلات المدارس الخاصة التي تريد تحقيق الأرباح وتعيد إنتاج إيديولوجيا الطوائف. ومقدّر عليه أن يتعلم بالحد الأدنى من المقوّمات التعليمية لأن صندوق مدرسته يكاد يكون فارغاً، فلا تقوى على شراء أبسط مستلزمات التعليم من أوراق للطباعة وأقلام للكتابة ودفع اشتراك كهرباء للمولدات.
قدر تلامذة المدرسة الرسمية أن يختلّ برنامج تعلمهم اليومي بسبب إضراب الأساتذة المتعاقدين، لأنهم يطالبون بحقوقهم في جمهورية اللاعدالة. ومكتوب عليهم أن يكونوا الفئة الأكثر تضرراً من التعلم عن بعد الذي كشف حقيقة نظامنا التعليمي المهترئ، وكأنه لا يكفي هؤلاء التلامذة عدم توافر الإنترنت الدائم والموارد المادية المطلوبة (كمبيوتر، تابلت، طابعة...) في منازلهم بسبب ظروف أهاليهم الصعبة، حتى يأتيهم تعليم يعاني من ضعف في المحتوى الرقمي، ومعلمون غير مدربين على امتلاك مهارات التعليم عن بعد، ما أثقل المَهمة عليهم أكثر فأكثر.
مظلومون هم تلامذة المدرسة الرسمية، لأنهم يُتركون لمصيرهم يتحمّلون ويتخبّطون، ولأنهم ضحية على مذبح نظام تعليمي عجوز، مصنوع من نظام سياسي فاشل يمجّد الوسيلة ويهمل الغاية، ولأنهم ملزمون بالخضوع لسياسات هشّة وقرارات وخطط بعيدة عن هواجسهم وميولهم وحاجاتهم وتطلعاتهم، ويتحملون ضربية تراكم تاريخي من السياسات المرتجلة والتذبذب في القرارات والصراعات وسوء التخطيط الذي يحكم منظومة هشّة.
مُقدّر لتلامذة المدرسة الرسمية أن يشعروا دائماً بالتأخر عن اللحاق بأقرانهم في المدارس الخاصة الذين يتعلمون منهاجهم الدراسي بشكل طبيعي، فيما هم بالكاد أنجزوا نصف النصف من المنهاج المرشّق، ومنهم من لم يتسنّ له الحصول على كتب حتى الآن، ليتولد لديهم شعور بأنهم مواطنون من فئة ثانية أو ثالثة أو رابعة.
هل يفكر المنتمون والعاملون في المنظومة التربوية بكل مراتبهم وأدوارهم ومختلف أطيافهم بتلامذة المدرسة الرسمية الذين يشعرون بغربة التعلّم وغربة الوطن في آن؟ هل يدركون حجم الكارثة التي ستظهر في السنوات المقبلة في جيل ذنبه الوحيد أنه تسجّل في المدرسة الرسمية لضيق أوضاعه الاقتصادية؟ هل يشعرون بقلق طلاب الشهادات في المدارس الرسمية الذين يعيشون ذروة التوتر النفسي والضياع والخوف من المجهول الذي يتهدّد مستقبلهم؟
مسكين هذا التلميذ لأن النظام التعليمي يُشعره بأنه أداة الامتحانات الرسمية، وكأن مقاييسها أقوى من كل المعايير الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والنفسية التي يمكن أن تتهدّدها. أي دعم معنوي ونفسي نقدمه لهؤلاء ونحن نتركهم وحدهم رغم تحمّلهم كلَّ مصائب نظامنا التعليمي؟ ألا يكفيهم أنهم يتعلمون بمناهج رثّة وبالية، تقتل إبداعهم وتحدّ من قدراتهم، وبعيدة كل البعد عن ميولهم واتجاهاتهم وعصرهم؟

* باحث تربوي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا