للمصارف تعريف "دارج"على لسان معظم الاقتصاديين، يقول إنها "وسيط بين مدخرين ومقترضين"، بين من يملك النقود ولا ينفقها وبين من ينفق النقود ولا يملكها. وبهذا المعنى، هي "واسطة خير"، تؤدّي عملها وتجني ربحها من جمع طرفي المعادلة المحببّة في الاقتصاد الشائع، أي الادخار والاستثمار. وبذلك تساهم في ضخ الدم في شرايين التجارة، الإنتاج والتبادل والاستهلاك، وفي تيسير حاجات السوق وحاجات اللاعبين فيها، رأسماليين كانوا أم تجاراً ومبادرين ورواد أعمال أم مستهلكين و"محتاجين"، أفراداً وأسراً ومؤسسات وحكومات دول عاجزة.في بلدان "العجائب"، مثل لبنان، يذهب تعريف المصارف إلى أبعد كثيراً من "الوسيط". كأن يقال مثلاً إنها "العامود الفقري للبلد واقتصاده"، بمعنى أنها تكتسب صفة "تأسيسية" في الكيان كله وعقده الاجتماعي ومصدر عيش السكان! أو إن يقال إنها والجيش "يشكلان ركيزة الاستقرار"، وهذا يضفي بعداً فريداً على تعريف المصارف ويفرض "واجب" الحرص عليها وتحييدها وجعلها خطاً أحمر، حفاظاً على السلم الأهلي ودرءاً للفوضى والانهيار! أو أن يجري تعريفها في القانون كمحميات فائقة الحساسية والخصوصية، إلى درجة تسويغ السرّية المطبقة على أعمالها وأعمال المتعاملين معها وعبرها، وإبقاء العمليات الجارية على دفاترها وفي حساباتها مخفية وبعيدة عن أعين "المتلصصين"، بمن فيهم مراقبو الضريبة وسائر أجهزة إنفاذ القانون والرقابة والمساءلة.
تظهر المصارف، في تعريفها المبتذل، أنها في صالح الجميع. يأتمنونها على مدخراتهم واستقرار عملتهم، وهي تعيد توظيفها في تمويل تجارتهم واستثماراتهم ونفقات دولتهم، وكذلك استهلاكهم، من السكن والتعليم حتى السيارات واليخوت والمجوهرات وعمليات التجميل، مروراً بكل السلع والخدمات والأحلام التي يجري شراؤها بالتقسيط.
هل هذا هو تعريف المصارف الصحيح؟ هل هي حقاً ذاك "الوسيط" وتلك المزاعم الأخرى؟
يوجد في الأبحاث والتقارير الاقتصادية، القديمة والحديثة، أكثر من تعريف واحد للمصارف، ومن وجهات مختلفة. ولكن طرح السؤال هنا، الآن، لا يهدف إلى البحث عن التعريف التقني الأصح، بقدر ما يهدف إلى إزالة الالتباس الذي يخلقه هذا التعريف المبتذل الدارج في أوقات الأزمات، ولا سيما في اقتصاد، مثل الاقتصاد اللبناني، حيث مجمل دخله السنوي اليوم لا يتجاوز ربع الموجودات في المصارف، ويغرق تحت مديونية هائلة (الحكومة ومصرف لبنان والشركات والأسر) تقدّر بأكثر من 190 مليار دولار، أي أكثر بثلاث مرّات ونصف من مجمل الدخل السنوي، وتستنزف الفوائد المدفوعة عليها نصف إيرادات الدولة ونصف الدخل المتاح للأسر.
هذه المديونية المرهقة تساوي تقريباً مجمل الودائع لدى المصارف وأموالها الخاصة. أي إن المطلوبات (الديون) على الدولة والقطاع الخاص والأسر تساوي قيمة المطلوبات (الديون) على المصارف (ولا سيما الودائع التي تشكّل أكثر من 78% من مجمل هذه المطلوبات). بمعنى أوضح، فإن كل دين على المصارف هو دين على الآخرين، وهي تجني أرباحها من كونها تقترض بفائدة أدنى من الفائدة التي تقرض بها. وهذا هو تعريف المصارف الأبسط، نسخة متطورة للربا، الذي صار بواسطتها معولماً، يقتطع حصة متنامية من فائض القيمة والدخل، ويساهم مساهمة فعالة في تركيز الثروة لدى عدد من الناس يتضاءل باستمرار (فيفيان عقيقي- ص 2).
يقول ماركس إن المصارف "تمثل تمركز المقرضين من جهة، وتمركز المقترضين من جهة ثانية"، ووصفها أنها "الإدارة العامّة" لرأس المال النقدي. وتعتبر مقالة، نشرتها دورية صندوق النقد الدولي (التمويل والتنمية - آذار 2016)، أن تعريف المصارف كـ"وسيط في الأموال المتاحة للإقراض" هو تعريف "مضلل للغاية". ويشرح الكاتبان مايكل كومهوف (مستشار بحوث أول في مركز بحوث بنك إنكلترا) وزولتان جاكوب (اقتصادي في إدارة البحوث في الصندوق)، كيف تعمل المصارف على إنشاء النقود بواسطة الدين، فكل قرض جديد يُصرف بإنشاء وديعة جديدة بقيمة القرض نفسه، وبالتالي تتم زيادة الودائع بزيادة الديون. وعلى الرغم من أن الجزء المهم من هذه العملية يبقى دفترياً، أي لا تقابله نقود حقيقية، إلا أن الفائدة المدفوعة تصبح حقيقية، وهي تبقى مستحقة حتى بعد استهلاك الدين، أي زواله كنقد أو رأس مال. في المثال اللبناني أيضاً، بلغت إيرادات المصارف في العام الماضي أكثر من 13 مليار، وهي سددت فوائد وعمولات لمقرضيها (المودعين) بقيمة 8 مليارات دولار، أي أكثر من الزيادة المحققة في الودائع (6 مليارات دولار)، علماً أن مجمل الموجودات ارتفع نحو 15 مليار دولار نتيجة الهندسة المالية (تقرير علي هاشم- ص 2).
بهذا المعنى، فإن الادخار ليس غاية المصارف، فهي لا تجني ربحها (مبرر وجودها) من الودائع، بل تدفع كلفة عليها، وبالتالي هي ليست "قجّة" تحفظ "ودائع الشعب"، كما يحلو للبعض القول بكل سذاجة. وكذلك، فإن الاستثمار ليس هدف المصارف، حتى في تعريفها المبتذل، وبالتالي هي لا تربح لأنها توظّف رأس المال النقدي المتراكم لديها في الاقتصاد الحقيقي، كما يصوّر الاقتصاد الشائع، بل تجني أرباحها من الاقتصاد الوهمي، من إنشاء المزيد من النقود عبر إنشاء المزيد من الدين، ولا يهم هنا، أي في مجال تعريف المصارف، إذا كان هذا الدين، أو أجزاء منه، تنتهي إلى تمويل الاستهلاك العام والخاص والاستثمارات أو المضاربة... ففي مطلق الأحوال، لا يعدو الدين، وهو عمل المصارف الوحيد، إلا الطريقة التي يتم فيها اقتطاع حصّة متزايدة من الدخل لصالح تراكم رأس المال النقدي والمصرفي، ليس من حساب الأرباح فحسب بل من حساب الأجور أيضاً وسائر أنواع الدخل، سواء مباشرة عبر مديونية الشركات والأسر والأفراد، أو عبر مديونية الدولة (عبد الحليم فضل الله- ص 4 و5).
"النقد، بما هو نقد، لا يدرّ أي شيء" (ماركس- رأس المال- المجلد الثالث). وفائض القيمة لا يتحقق في الاقتصاد الوهمي، الذي تمثل المصارف صورته الأوضح، وبالتالي لا تتحقق أرباح المصارف إلا من عمل الآخرين. لهذا السبب، ولأنها بالتحديد "ليست جمعيات خيرية"، يجدر تدفيعها ضريبة أعلى بكثير من الضريبة التي يدفعها الآخرون على ناتج عملهم، لا الحديث عن "ظلم تتعرض له"، بحسب ما كتب مكرم صادر، الأمين العام لأقوى لوبي في لبنان، الذي لم يجد حجة لردّ "الهجمة على المصارف" (نشرة جمعية المصارف- كانون الثاني 2018) إلا تعريفها على أنها مؤسسات مثلها مثل أكثر من 67 ألف مؤسسة صغيرة ومتوسطة، يعمل فيها نصف القوى العاملة تقريباً، ليطالب بكفّ الضرائب عن المصارف وفرضها على أولئك الذين يتزاحمون في الاقتصاد الحقيقي.