الآن، بعد أن وقّع لبنان على أوّل اتفاقيّتيّ استكشاف وإنتاج للنفط والغاز في المياه البحرية، ستبدأ الشركات بالتحضير للمباشرة بأعمال الحفر في بداية عام 2019. وهذا إنجاز طال انتظاره، خاصة أن أول قانون متعلق بالنفط، أي قانون الموارد البترولية في المياه البحرية، صدر في عام 2010، ثمّ بدأت هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية بالعمل في عام 2012 لتنظيم شؤون القطاع. ولم يتم إصدار المرسومَين المتعلّقّين بتحديد الرقع ووضع نموذج اتفاقية الاستكشاف والإنتاج إلا بحلول شهر كانون الثاني 2017، أي بعد مرور أربع سنوات على صياغتهما. أما قانون الأحكام الضريبية المتعلقة بالأنشطة البترولية، والضروري لاستكمال النظام المالي النفطي اللبناني، فلم يتم إصداره إلا بحلول شهر تشرين الأول 2017، أي بعد مرور عامين على صياغة مشروع القانون الأول.لقد استغرقت هذه العملية الكثير من الوقت في لبنان مقارنة بدول المنطقة، إذ إن مصر، على سبيل المثال، بدأت الإنتاج في حقل غاز ظُهر العملاق بعد مرور أقل من ثلاث سنوات على اكتشافه. لقد عانى قطاع النفط والغاز في لبنان كثيراً بسبب التأخيرات المتكررة خلال السنوات الماضية والمرتبطة إلى حد كبير بالأزمات الإقليمية. ولكن ذلك لا يعني أنّ الجمعيات المنشأة حديثاً وبعض الخبراء والسياسيين غير المطّلعين، يمكنهم الاستخفاف عند تقييمهم العمل الذي امتدّ على عدة سنوات والجهود الحالية الآيلة إلى استكمال الأسس القانونية للقطاع، والتي تشكّل شرطاً مسبقاً لنجاحه وإدارته واستثماره وتنظيمه بشكل جيّد.
تحتاج العديد من القوانين الأساسية إلى تشريع يعزّز أوّلاً الثقة في مناخ الاستثمار النفطي اللبناني، ويضمن ثانياً الشفافية أمام الشعب الذي هو بالنهاية المالك النهائي للموارد، ويقوم ثالثاً بإرساء أسس قانونية وحوكمة متينة لتشغيل هذا القطاع.
لقد بلغت حالياً أربعة قوانين مهمّة المراحل الأوّلية من العملية البرلمانية: وهي تشمل إنشاء مديرية الأصول البترولية وصندوق سيادي وشركة نفط وطنية، بالإضافة إلى قانون الموارد البترولية في الأراضي اللبنانية. تقوم اللجان الفرعية حالياً بدرس التشريعات المقترحة بتمعّن ودقّة. صحيح أن لبنان يمرّ بظروف مناسبة تعوّض عن السنوات التي ذهبت سدى، ولكن لا يجب أن يعتبر ذلك استعجالاً بوضع القوانين واعتمادها؛ إنّ نظرية المؤامرة هذه في غير محلّها. فقد قام مشرّعون لبنانيون يتمتعون بالكفاءة اللازمة بتحضير هذه القوانين على مدى أكثر من عامين.
من الضروري ألا يقع لبنان في فخ لعنة الموارد، وهي حالة تمرّ بها بلدان غنية بالموارد عندما يصبح نموها الاقتصادي وديمقراطياتها وتنميتها في حال أسوأ من البلدان التي لا تملك موارد مشابهة. إن الجمعيات المعنية والخبراء يسلطون الضوء على تلك المخاطر، وهم محقون، ولكن عليهم أن يدركوا أنه تم اقتراح هذه القوانين لحمايتنا من لعنة الموارد، ويجب أن ينتبهوا إلى نوع الرسائل التي يحاولون إيصالها إلى الرأي العام. لا يكمن الحل في وقف القوانين، بل في التعاون مع المشرّعين وفي إعطاء الملاحظات البنّاءة.
في ما يلي ملخص للقوانين الأربعة التي تناقشها حالياً اللجان البرلمانية مع شرح موجز حول أهمّيتها:

1. قانون مديرية إدارة الأصول البترولية:
سوف يُنشئ هذا القانون مديرية جديدة تابعة لوزارة المالية مع مهمّتين رئيسيتين. الأولى هي مساعدة وزير المالية على وضع تفويض الاستثمار الخاص بالصندوق السيادي والذي سيحتاج بعد ذلك إلى موافقة كل من مجلس الوزراء ومجلس النواب. ووفقاً لأفضل الممارسات المتبعة في جميع أنحاء العالم، يتكوّن تفويض الاستثمار من وثيقة فنية يعدّها خبراء من وزارة المالية، ويتضمّن مبادئ توجيهية عامة للصندوق السيادي في سياق سياسة الاقتصاد الكلي في لبنان، بما في ذلك درجة تحمّل المخاطر الخاصة بخيارات الاستثمار. إن دور الصندوق السيادي هو إدارة الأموال وليس تصميم السياسات المالية أو الاستثمارية. يهدف تفويض الاستثمار الذي يعدّه عالمياً صانعو السياسات لدى وزارة المالية ويقدّمه الوزير وتوافق عليه الحكومة ومجلس النواب، إلى ضمان تماسك الصندوق السيادي مع رؤية الحكومة المركزية للاقتصاد. أما الدور الثاني الذي تقوم به مديرية إدارة الأصول البترولية فهو التدقيق في الشركات العاملة في قطاع النفط لضمان تحصيل ضريبة الدخل بنسبة 20%. إنّ التدقيق في الأنشطة البترولية مسؤولية جديدة بالنسبة إلى لبنان، وينبغي تعيين الخبراء المناسبين لدعم وزارة المالية في عملية تحصيل الإيرادات.

2. قانون الصندوق السيادي:
أصبح عبء الدين في لبنان مرتفعاً جداً. وبحسب المبادئ الاقتصادية الأساسية، ينبغي تسديد الدين بالأموال الحكومية الفائضة قبل محاولة تحقيق عائدات أعلى في الأسواق المالية عندما تكون كلفة الدين عالية. ولكن لا ينطبق ذلك على سياق لبنان، بل إنه قد يكون خطيراً. ففي الواقع، لا تنجم مشاكل الدين المزمن وغياب الاستثمار في البنية التحتية وفشل الخدمات العامة والعجز السنوي المرتفع عن نقص في السيولة في النظام المالي، وبالتالي لا يشكّل استخدام الدخل من الأنشطة البترولية لتسديد الدين حلاً ملائماً.
يمكن للشراكة بين القطاعين العام والخاص أن تحلّ مشكلة البنية التحتية والخدمات العامة، في حين أن إلغاء الإعانات غير المنتجة وتحسين نظام تحصيل الضرائب يحلّ مشكلة العجز والدين المزمنة. كما أنه ينبغي تحويل الدخل الناجم عن الموارد غير المتجددة كالنفط إلى موارد مالية متجددة خارج الميزانية العامة والحفاظ عليها للأجيال القادمة، على ألا تُستخدم سوى وفق شروط صارمة وفي القطاعات الاقتصادية الصحيحة.
لا يكمن الحل في وقف القوانين بل في التعاون مع المشرّعين وفي إعطاء الملاحظات البنّاءة


يتضمن المشروع الحالي لقانون الصندوق السيادي قواعد مالية خاصة بالإنفاق وصارمة للغاية. ينصبّ الجزء الأصغر من الإيرادات على التنمية والجزء الأكبر على الادّخار. يسمح هذا القانون بتخفيف عبء الدين فقط في حالة معيّنة وهي عندما تحوّل الحكومة مشكلة عجزها المزمن إلى فائض أولي مستدام للدين؛ الأمر الذي سيشكّل إنجازاً كبيراً في حال تحقّق. والأهم من ذلك، يضمن هذا القانون وضع آليات الضبط الإداري وفقاً لأفضل الممارسات المعتمدة للحوكمة، وتفاعل كل من مجلس إدارة الصندوق ووزير المالية ومجلس الوزراء والبرلمان والمدققين الداخليين والمدقّقَين الخارجيَّين ومديرية إدارة الأصول البترولية وإدارة الصندوق السيادي، من دون أن تتجاوز أي من هذه الجهات ولاية جهة أخرى. كما أنه يضمن الشفافية الكاملة من خلال نشر جميع التقارير إلكترونياً.
يستغرق تشكيل فريق محلي يتمتع بالقدرات والكفاءات اللازمة لإدارة مثل هذا الصندوق سنوات عديدة؛ لذلك ستكون لأيّ تأخير حالي انعكاسات سلبية كبيرة في المستقبل. يمكن أن تشكّل عشرات الملايين من الدولارات التي نجمت عن بيع المسوحات الجيوفيزيائية للشركات رأس مال أولياً لتشغيل الصندوق.
ولطالما كان لبنان دولة مقترضة، لذلك من الضروري الآن إطلاق ثقافة الادّخار. إن الخوف من بناء مؤسسات جديدة وزيادة عدد العاملين فيها والتسبب بإنفاق مسرف، أمرٌ مبرّر نظراً لضعف الحوكمة المعتمدة في لبنان. غير أنه لا ينبغي أن يدفعنا ذلك إلى البقاء مكتوفي الأيدي، بل عليه أن يشجعنا على إنشاء هذه المؤسسات وإدارتها بإطارها الصحيح.

3. قانون الشركة الوطنية للنفط:
لا يقوم هذا القانون بإنشاء الشركة الوطنية للنفط وإنما ينظّم إدارتها ويحدّد طريقة مشاركة الدولة الإضافية من خلال طريقة الـrightsback-in، أي المشاركة في حصّة من الحقول البترولية من خلال الأرباح المستقبلية للحقل وتحميل جميع المتطلبات المادية للإنتاج للشركات الأجنبية. فضلاً عن ذلك، يبدأ هذا القانون بجمع أصول النفط والغاز الحكومية في إطار كيان قانوني واحد. ينص مشروع القانون بوضوح على أنه سيتم إنشاء الشركة الوطنية للنفط وفقاً لقانون الموارد البترولية في المياه البحرية الصادر في عام 2010 والذي ينص على أنه يجب أن يتم إنشاؤها بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء، وذلك بعد إثبات الجدوى التجارية وليس على الفور، كما اتهم بعض الخبراء غير المطّلعين. وهكذا، ومن خلال هذا القانون، ستتمكّن شركات النفط العالمية من معرفة الطريقة المعتمدة لمشاركة الدولة كمستثمر، إضافة إلى حصّتها في اتفاقية الإنتاج. إن الهدف من ذلك هو الشفافية في ما يتعلق بنيّة الحكومة في جولات الترخيص المستقبلية لأن طريقة مشاركة الدولة كمستثمر ستؤثر على حصة الشركات من عمليات الإنتاج المستقبلية.

4. قانون الموارد البترولية في الأراضي اللبنانية:
نظراً إلى أن قانون الموارد البترولية في المياه البحرية يغطي فقط أنشطة التنقيب والإنتاج في المياه، فمن الواضح أن هناك حاجة لإطار تشريعي خاص بالأنشطة البرية التي تختلف بطبيعتها عن الأنشطة البحرية، ما يحتّم ضرورة تنظيم هذه الأنشطة بشكل متكامل. ومن شأن هذا القانون أن يحدّد نطاق الأنشطة البرية، بما في ذلك التطوير والإنتاج ووقف التشغيل وملكية الموارد وطريقة استملاك الأراضي ومشاركة الدولة ودور الجهات الحكومية المختلفة وكيفية الحفاظ على أي تراث ثقافي أو تاريخي، بالإضافة إلى تغطية مسائل أساسية أخرى على غرار قانون الموارد البترولية في المياه البحرية.
فضلاً عن ذلك، سيساهم كل من قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، الذي تم إصداره العام الماضي، واقتراح قانون دعم الشفافية في قطاع البترول، وخطة الانضمام إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI)، في زيادة شفافية هذا القطاع.
لقد تخبّط الاقتصاد اللبناني خلال عقود طويلة للتغلب على مختلف العوائق الداخلية والخارجية التي اعترضت طريقه نحو النمو السليم، ولا يعكس حجمه الحالي سوى ربع إمكاناته الحقيقية. لذا، تكتسي القوانين المقترحة المتعلقة بالبترول أهمية كبرى إذ إنها تدفع لبنان قدماً نحو تحقيق هذا النهج الشامل بغية وضع النموّ مجدداً على مساره الصحيح، في إطار قانوني صلب وحوكمة رصينة. ويمكن أن يحقق لبنان هذه الرؤية لأنه يتمتّع بالمواهب والقدرات والكفاءات اللازمة لذلك.