الخطاب الانتخابي للمرشحين الذين يطلقون على أنفسهم صفة "ناشطو وناشطات المجتمع المدني"، يركّز على استعادة البرلمان لدوره التشريعي، وكأن برلماناً آخر من بلاد أخرى شرّع كل هذه القوانين السارية، التي رسخت البنى الاقتصادية- السياسية القائمة! كما يركّز على مكافحة الفساد بمعناه الضيّق، أي الرشوة والعمولات والاختلاسات، وكأن "الفساد" لا صلة له بكيفية تراكم رأس المال وآليات سيطرته على الفائض الاجتماعي وإعادة توزيعه على "القلّة السعيدة"... هؤلاء المرشحون "التكنوقراط" لا يهدّدون أيّاً من المصالح القائمة، وجلّ ما يطرحونه يمكن تلخيصُه بعبارة: "نحن" أكفأ "منهم" في تأمين هذه المصالح وحمايتها من المخاطر المحدقة.أعطى ترشح مجموعة من الأفراد الآتين بمعظمهم من خارج المنظومة السياسية التقليدية نكهة مختلفة للانتخابات النيابية المقبلة في لبنان. اعتمد هؤلاء، مسميّات كالقوى المدنية أو التغييرية أو حتى مصطلحات فضفاضة كالمجتمع المدني، وذلك تتويجاً للحراكات التي برزت على الساحة اللبنانية من الـ2011 حتى 2015 وصولاً إلى الانتخابات البلدية (2016).
للصورة المكبّرة أنقر هنا

طبعاً، أفراد هذه المجموعة ليسوا متجانسين، أو بمعنى أوضح، لا يشكّلون مجموعة واحدة تمثّل مصالح معينة، ويتوزعون على مروحة واسعة ومتنوعة جداً من الليبراليين وأصحاب الميول اليسارية أو اليمينية والمحافظين والطائفيين والناشطين في مجالات الحقوق المدنية والعاملين لدى المنظمات غير الحكومية، المحلية وغير المحلية... فضلاً عن أنهم ينتمون إلى تشكيلة مهنية مختلفة.
مع استبعاد الحملات التي لا تدّعي النطق باسم "المجتمع المدني". تبرز ثلاث حملات انتخابية في بيروت والشوف، "حدا منّا" و"كلنا بيروت" و"لبلدي". بعيداً عن المسميات، وما تحمله من دلالات وإشكاليات، هناك حاجة للتمعّن بالمهمة التغييرية التي اختارها هؤلاء الأفراد طارحين أنفسهم كبديل من منظومة الحكم الطائفي القائمة حالياً. فما هو هذا البديل؟ وأي تغيير يعدنا به المستشارون والناشطون والمهنيون الوافدون من ميادين التكنوقراط إلى معترك العمل السياسي المباشر وتحديداً من المنظار الاقتصادي؟

أسس التراكم لا تُمسّ
لتقييم جديّة أي جماعة تطرح نفسها كبديل وتريد تسلّم السلطة، لا بد لنا من البحث في ما يشكله هؤلاء من تهديد أو مشروع تغييري للأسس التي يقوم عليها النمط الاقتصادي القائم. فبمراجعة سريعة لما نُشر من برامج هذه الحملات، نلاحظ عدم تطرّقها لأسس نظام إنتاج اللامساواة وتركّز الثروة والدخل في لبنان، والتي تقوم على الارتباط العضوي ما بين قطاعي المصارف والعقارات ومديونية الدولة، وهو ما يشكّل العنوان الرئيس لنموذج الاقتصاد الريعي في البلاد. بل على العكس، تأخذ بعض هذه الحملات تلك الأسس وتعتبرها من المسلمات، حتى أنها تدعو إلى تعزيز بعضها. فتتعهّد "لبلدي" (حملة في دائرة بيروت 1) بالعمل على "تأمين وحدات سكنية منخفضة التكلفة وتأمين القروض المدعومة لها للاستجابة لحاجات الأسر ذات الدخل المنخفض أو المتوسط"، وهو ما يقوم عليه النموذج أصلاً. وتهدف "كلنا بيروت" (حملة في بيروت 2) إلى "زيادة عدد المساكن ذات الأسعار المعقولة في بيروت عن طريق شراكات بين القطاعين العام والخاص"، أي باختصار مفيد، إعادة إنعاش القطاع العقاري من المال العام عوضاً عن اقتراح سياسات سكانية أخرى لا تعتمد على التملّك الفردي. بذلك تتبنى مجموعات المرشحين والمرشحات هذه، خيار بيع اللبنانيين الوهم بأن الأمان الاجتماعي يتأتى من خلال تمكينهم من تملك المسكن الخاص بالدين المرهق!
أما من ناحية تركز الثروة، الدين العام، الضرائب التي تطال المصارف والعقارات، أو السرية المصرفية وسياسات مصرف لبنان؛ فبكل بساطة خلت برامج المرشحين والمرشحات "المستقلين" من أيّ إشارة لها باستثناء حملة "كلنا بيروت"، التي تقول في برنامجها إنها تريد الحدّ من الدين العام إلى 90% من الناتج المحلي دون تحديد الآليات، ما يدفع إلى التساؤل: هل تطرح الحملة الخصخصة مثلاً لتحقيق هذه الغاية المنشودة؟ أما حملة "لبلدي" فكانت قد أوردت بنداً في برنامجها تدعم فيه سياسات مصرف لبنان، ولكنها عادت وحذفته في النسخة الأجد من برنامجها. وبطبيعة الحال تغيب مصطلحات "اللامساواة" و"إعادة توزيع الثروة أو الدخل" عن أي من برامج هذه الحملات.

السوق هو الحلّ
تُجمع معظم حملات "المجتمع المدني" على تشجيع إنشاء الشركات الخاصة كخيار للإنعاش الاقتصادي. فتقترح "كلنا بيروت"، "حدا منا" (حملة في الشوف وعاليه) و"لبلدي" تعديل قوانين التجارة لتسهيل إنشاء الشركات، وهذه توصية مزمنة للبنك الدولي تتبناها قوى السلطة الأساسية. تنفرد "حدا منّا" باقتراح إعفاء ضريبي للشركات بما يتناسب مع نسب الوظائف التي تنتجها، وليس بشكل نسبي مع رأسمال هذه الشركات، مما قد يشجّع التوظيف المحدود الأجر على حساب التطور التقني. لكن الأهم أن السياسات المقترحة لا تمسّ فعلياً ببنية الاقتصاد اللبناني، لا بل هي بمعظمها لا تتعدى كونها إعادة تدوير لتوصيات المؤسسات المالية الدولية والدراسات الاستشارية.
يقول جيلبير ضومط: "نحنا منعملهم شغلهم للسياسيين وهني ولا مرة بيطبقوا"


بالنظر إلى خطاب "لبلدي" و"كلنا بيروت" نجد أن التنظير السياسي الطاغي يتقاطع مع برامج قوى السلطة من حيث تشجيع روح المبادرة والريادة وتحفيز إنشاء الشركات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية. وهي توصيات لم تتوقف المدارس الاقتصادية المهيمنة (خاصة النيوليبرالية) عن تقديمها للبلدان النامية منذ ثمانينيات القرن الماضي. فالروح الريادية والاستثمارات لا تصنعان لوحدهما اقتصاداً. فالأولى التي روجت للأيديولوجية القائلة بأن لكل فرد إمكانية تأسيس عمله\ها الخاص عبر سندان القروض الصغيرة والمتوسطة ومطرقة التدريب المهني الممول من المؤسسات الدولية، أنتجت في لبنان مثلا قطاعاً خاصاً ضعيفاً ومأزوماً، لا توظف 95% من مؤسساته سوى أقل من 5 عمّال؛ هذا من دون نقاش مقدرة هذه المؤسسات على النمو والتطوّر وإنتاج فرص عمل لائقة. أما تشجيع الاستثمارات الأجنبية، فلطالما كانت مطية للحد من مكتسبات العمل، إعفاءات ضريبية هائلة وغطاء للخصخصة. وهذا بالفعل ما تدعو إليه "كلنا بيروت"، إذ طالبت بالشراكة مع القطاع الخاص في البنى التحتية. أما "لبلدي" و"حدا منّا" فذكرت الاستثمار في البنى التحتية دون ذكر ما إذا كانت الدولة ستقوم به أم القطاع الخاص. اللافت، أن جميع الاستثمارات، ما عدا سكة الحديد، التي تنوي هذه المجموعات القيام بها تتطابق بشكل كبير مع مقترحات الحكومة لمؤتمر باريس-4. فأين البديل تحديداً؟

خلق فرص العمل
أما سياسات العمل، فـ"كلنا بيروت" تطرح " تكييف قانون العمل مع الاحتياجات والتحديات الراهنة لسوق العمل تحفيزاً لخلق فرص عمل"، هذا ما تجري ترجمته بالعادة بالمزيد من "المرونة" في القانون لتخفيض متكسبات العمال وتسهيل صرفهم من العمل. أما "حدا منّا"، فستعمل على زيادة الأجور تماشياً مع التضخم. ولكن جميع الحملات لم تتطرق لحقوق العمال في التنظيم النقابي، ولم تتعهد بإلغاء الترخيص المسبق للنقابات وإلغاء حظرها في القطاع العام. بمعنى آخر، لم يجد العمال، ولا حقهم بالتنظيم والتعبير الحر والمشاركة في صوغ السياسات العامة، أي مكان لهم في مجموع البرامج الانتخابية "المدنية" و"المستقلة". على العكس، تُرك هذا الأمر للخبراء والاختصاصيين كما ورد في برنامج "حدا منّا" عبر "إنشاء هيئة استشارية من أصحاب الاختصاص والتجارب الناجحة لصياغة استراتيجية خلق فرص عمل محلية"، ما يعني رجال أعمال وتكنوقراط. وتزيد المقترحات أدلجةً نيوليبرالية حين يقترح المرشح مارك ضو من "حدا منّا" إنشاء "منطقة حرة في ساحل الشوف مرتبطة بمرفأ صيدا، تساعد في تطوير ونمو الشوف وعاليه وجزين وصيدا"، على غرار المنطقة التي يتمّ إنشاؤها في طرابلس. هذا النموذج الذي انتشر في البلدان النامية من أجل إيجاد مناطق رخيصة للتصنيع والتشغيل غير اللائق. ما لم يقله ضو، إن هذه المنطقة "الحرّة" هي في الحقيقة محررة من القوانين التي تحمي العمال – ناخبيه المفترضين بالمبدأ - ومن الضرائب والحد الأدنى للأجور.

السياسة المالية
تتعهد حملة "حدا منّا" بزيادة الإنفاق المجدي ووقف الهدر من دون توضيح لمقومات هذا الإنفاق "المجدي" وآلياته في استعادة ببغائية لمصطلحات صندوق النقد والبنك الدوليين. فزيادة الإنفاق المجدي تعني أيضاً تقليصاً في أماكن أخرى، وهو ما يطرحه تيار المستقبل في برنامجه الانتخابي. وهذا ما تدعو إليه حملة "كلنا بيروت" من دون مواربة مع إضافة مصطلحات الشفافية والمحاسبة والتكنولوجيا بوصفها من عدة شغل المؤسسات المالية الدولية. أما بما يخص السياسات الضريبية تتعهد حملة "حدا منا" بـ"مراجعة كافة السياسات الضريبية التي أقرت والتي سيتم إقرارها، بما يحقق مصالح المواطنين، مع توظيف الضرائب المقتطعة لتحسين حياة اللبنانيين". ولكن لم تذكر مراجعة بأي اتجاه، وحياة أي لبنانيين، وأي قطاعات وأي أرباح وأجور. ما قد يبرر تخفيف الضرائب على الفوائد المصرفية وزيادتها في آن. أما "كلّنا بيروت" فتضع تحت خانة العدالة الضريبية تخفيض نسب الضرائب غير المباشرة ومكافحة التهرّب الضريبي دون التطرق إلى الضرائب على الثروات وعلى الأرباح الريعية وغيرها من القوانين التي تحوّل لبنان إلى شبه جنة ضريبية للبعض.

أي بديل يطرحون؟
تعجز هذه المجموعات "البديلة" عن طرح بدائل جديّة، بل تغرق في الايديولوجية الاقتصادية السائدة في لبنان والعالم، وتكاد تطرح السياسات نفسها التي تدفع من أجلها الطبقة الحاكمة بأذرعتها المصرفية والعقارية كافة. فالواضح من خلفية المرشحين والمرشحات الأكاديمية والمهنية وموقعهم\هن كتكنوقراط أنهم لا يهدّدون علاقات القوة المهيمنة، بل جلّ ما يعدون به هو تطبيق السياسات التي تجعل النظام الحالي يعمل بطريقة أكفأ في خدمة المصالح الكامنة فيه. هذا ما يظهر جلياً في أحد الأشرطة الدعائية للمرشح جيلبير ضومط، الذي يقول بالإنكليزية: "أقوم باستشارات لحكومات في البلدان العربية وأصيغ سياسات لها، أريد فعل هذا الأمر هنا"، ويردف بالعربية "نحنا منعملهم شغلهم للسياسيين وهني ولا مرة بيطبقوا".