سواء صاحَبَها أو تزوّجها يظلم الرجل المرأة من الزاوية العشقيّة أكثر ممّا تظلمه. في المصاحبة مفروض عليها البقاء قيد التوهُّج، وفي الزواج غالباً ما تيأس بعد حين من محاولات إعجاب الزوج. ناهيك بالنظرة التقليديّة (الأرسطوطاليسيّة ثم المسيحيّة) التي تربّت عليها الأجيال السابقة من أن وظيفة الزواج تأمين الوَرَثة وأنَّ استمتاعَ الزوجين غير مستحبّ لأنه، كما نقل مونتانيه عن أرسطو، قد يمنع الحمل...
المرأةُ أيضاً تظلم الرجل حين لا تتفهّم حاجته إلى المسافات. قَطْع المسافات أفضل ما يحصل حين يحصل في أثنائها، وأدومه ما كلّما قطع مسافة أطلّت عليه مسافات. إذا انتهت المسافات يستحيل الرجل حطاماً. كلّما أتاحت المرأة متّسعاً لخيال الرجل جدّدتْ صورتها لديه.
المسافة تقاس نوعيّاً. قد تتمنّع المرأة عن الرجل شهوراً ولا ينفع ذلك في تأجيج رغبته، وقد تغيب عنه دقائق ولا يحتمل غيابها. لكلّ امرأةٍ فنّها في إضرام الشوق، أو هكذا يجب أن يكون.
والحجاب، الحجاب المجازي لا حجاب القماش، جوهريّ في هذه اللعبة الخالدة.
■ ■ ■
«أحبّكَ حتّى الموت» أبدلَتْها شهرزادُ بـ«أحبّكَ كي لا أموت». بهذا الاستنتاج خرج مالك شبل في كتابه الأخير بالفرنسيّة «القاموس العشقي لألف ليلة وليلة». معادلة أكثر واقعيّة، لولا الكلمة الأخيرة في العبارة الأولى والكلمة الأولى في العبارة الأخيرة... الحبّ حتّى الموت، سواء موت العاشق أو المعشوق، اضطهاد. والحبّ تفادياً لقطع الرأس بيد سيّافِ السلطان، تَعَهُّرٌ بالمعيار الأخلاقي، وكان من الانسب القول «أستسلمُ لك ـــــ أو أعطيكَ جسدي ـــــ كي لا أموت».
الالتباس الذي سيظلّ يحيط بشخصيّة شهرزاد هو كونها من ابتكار رجل. كان سيكون في الأمر دلالات أخرى لو أنّ المجون المالئ مغامرات الكتاب من نسج خيال امرأةٍ ومنطوق بلسان امرأة. النجاحُ في إيهامنا أحياناً بأنّ الراوية امرأة هو بدوره لغز. وما دام البحّاثة يسلّمون بأنّ مؤلّفي الليالي كُثُر عبر تعاقب الأزمان والبلدان، فلمَ لا ندع احتمالاً لأن يكون بين هؤلاء المؤلّفين امرأة؟ أليس أقرب إلى المقبول أن تخفي المرأة اسمها عن كتاب كهذا وقد أخفى جميع المؤلّفين الرجال أسماءهم؟
والآن عودة إلى الحجاب: ألا يخسر خيال الرجل إذا غاصت المرأة فعلاً في كشف مخبآتها؟ أليس ما يجتذبه في المرأة هو ما لا يعرفه منها؟ أليس ما يعرفه فيها هو ما لا يلبث أن يموت في عينيه فيضطر إلى إعادة اختراع البراقع لتحميه من الحقيقة وتجدّد جهله المبارك؟
المرأة حجاب. تَحجّبها الإسلامي المتجدّد ما هو إلّا بلورة شكليّة لحالة جوهريّة. الحجاب القماشي إضافة صغيرة، وغالباً ما تؤجّج الفضول ولا تقمعه. المرأة حجاب. حجاب ماذا؟ ربّما سرّ وربّما فراغ، الحجاب هو الجواب لا ما وراءه. الحجاب هو الباب وهو ما وراءه. وعريُ المرأة حجاب. وعيناها حجاب. وشَعرها حجاب. هذا الكائن الذي يصل الرجل في تَعشُّقه إلى حد العبادة لا يُختزل بمعرفته. ولا يُبدَّد سحره بمعاشرته، لأنه إذا آلف الرجل امرأةً حتّى الملل رَصَدَه السحرُ مجدّداً في امرأةٍ أخرى. المرأةُ كوكبٌ لا نهاية له، كلّما طاف به الرحّالةُ أحسّ أنه لم يبدأ بعد.
خلافاً لما قد يعتقده «الخبير»، تجد المرأةُ في أعماق غريزتها أنّ هيام الرجل بها حتّى العبادة حالةٌ طبيعيّة. تدركُ أنّها نوعٌ من دين. وما يرتّبه عليها هذا النوع من الإدراك أساسيّ جدّاً لرعاية سحرها. السحر، ولو مخلوقاً، لا يستغني عن الرعاية. المعبد نفسه إنْ لم تُوفَّر له شروطُ الصلاة تَنقص هيبته.
المرأةُ حجاب مثلما السراب سراب. إنّها معطياتُ الطبيعة لا خرافات الإنسان. يقال إنّ الانبهار بالمرأةِ سذاجةُ شعراء. الحقيقة أنّ عدم الانبهار جفافٌ في القلب وتصحُّر في الخيال. مهما جَمَحَ الشاعر في إنشاد الحبّ يظلّ أقلّ جموحاً من الحبّ ومهما تناهى في التغزُّل بالمرأة يظلّ القسط الأكبر من مشاعره حبيس عجزه. المرأةُ ليست ضلعاً من الرجل لأنّ الفرق الذي بينهما أكبر من الفرق بين نجمة ونجمة، ولولا هذا الفرق لما كان الشوق. إذا أردنا البحث عن مصدرٍ لنشوء المرأة فلنبحث في خيال الرجل، في حاجته إلى غريبة تشبهه شبهاً خدّاعاً ولكنّه يكفي لمدّ الجسر بين طرفي الهاوية. جسرٌ بين متكاملين لن ينصهرا وغريبين لن يفترقا. وإنْ لم يكن الخيال هو المصدر فلنُجِلْ نظرنا في الطبيعة ونرَ الكائنات ذَكَراً وأنثى ونسألها كيف. وسنرى أنّها هي أيضاً تُدهَش من فوارقها وتنجذب بفوارقها وتَسْعَد بفوارقها. مَن خَلَق الأنثى؟ الذي خلق كلّ شيء، كلّ شيء، وأحسّ في أعماق أعماقه أنّه كأنّه لم يخلق شيئاً، وأنّ عيباً هائلاً يشوب الوجود، وفراغاً مخيفاً سوف ينهش المخلوقات كلّها ويقلبها كتلاً من العتم الأصمّ والزوابع البلهاء والوحوش العمياء، وأنّ الحياة تحتاج إلى إنقاذ قبل أن يقتلها حَسَكها. عندئذٍ تجلّى الحلّ وحده من تلقاء الأشياء، وكما أعطى أبو الوجود الوجودَ المذكّر، تعطّفتْ أمّ الوجود وأعطت الحياة المؤنّثة.
■ ■ ■
إذا لم تَفهم نساء كثيرات تعبُّدَ الرجل للمرأة، فلأنّ الكثيرات لا يستحقِقن هذه العبادة. والأرجح أن معظمهنّ لا تزال رواسب التربية الذكوريّة تُصغرهنّ في عين أنفسهن. وفوق هذا يجب أن لا ننسى أننا حين نتحدّث عن امرأة الحبّ نعني بالطبع تلك التي تُحَبّ. كلمةُ امرأة في هذا السياق هي سنّ معيّنة وأشكال معيّنة ولا حاجة للإفاضة. ربّما في هذا بعض التمييز المجحف، شيءٌ من العنصريّة الظالمة، لكنّها قوانين الطبيعة: الجاذبُ وحده يَجذب.
الرأفةُ في غمرةِ هذه «الطبقيّة» هي أن الجاذب هو الجمال وليس العكس. قد يجد كائنٌ جاذبه حيث لا يجد آخر ما يَجْذب. إنّه نوعٌ من العدالة لا ضرورة لفكّ ألغازه، فهو مُغْلق علينا أسوة بملايين المُغْلَقات.
■ ■ ■
في هذا الإطار أروي القصّة الواقعية الآتية:
عجوزٌ يُحْتَضَر (لماذا «يُحْتَضَر»؟ مَن ذا يحضر أمامه في تلك اللحظات؟) لم يعد يستطيع وقف جسده عن الارتجاف. وحواليه طبيبه وذووه عاجزون عن فعل شيءٍ يهدّئ رعدته. كان في تلك الحالة الانزلاقيّة التي لم تعد حياة ولا صارت بعد موتاً، حالةٌ يُسمع معها صوتُ صريرِ الروح كأنّها بابٌ مخلّع يقاوم هجمات العاصفة. بالأمس شجرةٌ خضراء والآن فقدت جميع أوراقها ولم تعد غير هيكل يهتزّ لافظاً أشباحه.
آخرُ دَرَجةٍ قبل الغَرَق. آخرُ أثرٍ لآخرِ قَبَس قبل الغروب. وشدّ ما يؤلم عتم الغروب حين تكون بقايا الشمس لا تزال طافية. الغروب أعتم من الليل لأنّ جذورَ النهارِ لا تكون قد اقتُلعت منه نهائيّاً. في هذا العتم المقارَن، في هذا العتم المهواريّ، يكتشف المائت، أحياناً، أهميّة الضوء أكثر من أيّ وقتٍ في حياته. يشتهي سحابة ضوء، جانباً من الشمس، إشراقاً يذهله. النور! النور! وما هو إلّا طالباً أن يؤتى له بصبيّة...
أيّ صبيّة، أيّ صبيّة حلوة، تدنو منه، يمسك يدها، فقط يمسك يدها، ولا يعود الموت مهمّاً بعد ذلك.
كيف تدبَّر ذوو العجوز أمرهم؟ كيف وجدوا الصبيّة؟ أحوالُ الصدف فوق حساباتنا. ما نسمّيه القَدَر له أيضاً أسماءٌ أخرى كالرحمة. كان صديق غالٍ يردّد «لا بدّ من رحمةٍ أخيرة». إطلالةُ هذه الصبيّة على العجوز المغادِر رحمة أخيرة. حتّى الرصاصة الأخيرة التي يُرمى بها الجريح لإراحته من عذابه تُسمّى «رصاصة الرحمة». وهناك «الموت الرحيم». والممرّضاتُ يُلقَّبنَ بـ«ملائكة الرحمة». ما إنْ وضعت الصبيّة يدها في يد المحتضر حتّى هدأت رجفته وانفرجت أساريره. امتلأت عيناه امتناناً.
في هذه اللحظة كانت هذه الصبيّة خلاصة الكون. واكتملت الرحمة بابتسامة أضاءت وجهها من غير تكلُّف، ابتسامةُ الرسول الذي يعرف أنّه يحمل معجزة.
خلاصةُ الكون هذه الصبيّة، ولحظة الرحمة التي أتت بها خلاصة القول في سحر المرأة. ليعطَ الإنسان أحمالاً فوق أحماله ولا يُحرَم مثل هذه اللمسة.
لم يشعر المائت أنه يموت حين مات. فاضت روحه مغمورة بالفرح. الموت في حنان الدهشة ليس موتاً بل هو تسللٌ من غرفةٍ إلى غرفة.
لم يُقَلْ ما يكفي عن تلك الاستغاثة وهذه التلبية. عن الفتنة الفاصلة ـــــ الواصلة بين النَفَس وانطفائه. عن جسور الروح. عن وداع الحياة بالعرس لا بالجنازة، بذروة الحياة لا بأهوال النهاية.
خلاصةُ الكون هذه الصبيّة، خلاصته في كلّ لحظة. سراب؟
سراب. السراب حقيقة للسائر نحوه. ليس أجمل من شرب السراب غير الإفراط في شرب السراب والرحيل على أجنحته.

عابرات

يُحَلْمِس الرأسُ لنفسهِ بالأحلام.
■ ■ ■
الفقير الكريم يفلس ذات يوم. في هذا اليوم يعرف إنْ كان كَرَمُه حماقة أو كان هو يستحقّ كرمه.
■ ■ ■
الرحيل في البداية، بداية. الرحيل في النهاية نهاية.
■ ■ ■
المثالي في العلاقة ليس كما كان في الظنّ، أي تَساوي القوّتين فلا جلّاد ولا ضحيّة، إنّما أن يكون في كلّ من العاشقَين جلّاد وضحيّة.