دمشق | تستمرّ عروض موسم المسرح القومي في سوريا النادرة نسبياً، في التحليق بعيداً عن نبض الشارع والأحداث الدموية التي تعصف بالبلاد. هكذا اختار المخرج السوري مانويل جيجي (1946) النص المسرحي «بيت الدمية» (1879) للكاتب النروجي هنريك أبسن (1882 ـــــ 1906) لتكون مادة أولية لعرضه الذي يحمل الرقم 56. كعادته، أخضع جيجي النص الأصلي للإعداد، وإعادة الكتابة «ليتلاءم مع واقعنا وحاضرنا وبيئتنا الشرقية، لكن مع المحافظة على فكرة النص الإبسنية الأساسية»، يقول جيجي الذي دمج الفصول الثلاثة التي تكوّن النص الأصلي، وحوّلها إلى فصل واحد كُتب بالفصحى (تجاوزت مدة عرضه الساعة).
واحتوى النصّ المعرّب على العقدة والحل والذروة الدرامية التي كانت موزعة على الفصول الثلاثة، كما سرت عليها العادة في نصوص إبسن الكلاسيكية. وألغى كذلك الشخصيات الثانوية (المربية، أطفال العائلة الثلاثة، الخادمة والحمّال) وأسند الأدوار الرئيسية إلى عدد من خريجي معهد الفنون المسرحية (هزار سليمان، جابر الجوخدار، مؤيد رومية، فاتنة ليلى، ومحمد ديبو). من هؤلاء مَن وقف على خشبة المسرح للمرة الأولى بعد تخرّجه «حاولت تقديم عرض ينتمي إلى المدرسة الكلاسيكية التي غابت طويلاً عن خشبات مسارحنا. لذلك اخترت عدداً من المتخرجين الجدد الذين لم يتأثروا بعد بالتجارب الإخراجية السائدة الآن في المسرح السوري، وهي تعتمد بمعظمها التجريب في مختلف عناصر العرض، بما فيها الأداء التمثيلي».
سبق للمخرج السوري أن قدّم عدداً من الأعمال المسرحية التي عالجت قضايا المرأة ومعاناتها مع المجتمع، كان آخرها مونودراما «صوت ماريا» التي قدمها مع الممثلة السورية فدوى سليمان ضمن فاعليات «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». لكن في عرضه الجديد، يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر الذي بقي أميناً له في الديكور الواقعي الذي وضعه أسامة دويعر، والأزياء والأكسسوارات المستوحاة من تلك الحقبة في النروج (اختارتها ستيلا خليل). حتى الإضاءة الكئيبة والخافتة التي استمرت طوال العرض (صممها بسام حميدي) لم تبتعد بدورها عن تنظيرات إبسن نفسه لعناصر العرض المسرحي الذي كان يشهد مخاضاً جديداً في ذلك الوقت، مع أفول المدرسة الطبيعية، وصعود الأسلوب الرمزي في الكتابة والإخراج. علماً بأنّ صاحب «عدو الشعب» أسهم في تكريسه وصياغة أهم معالمه في نصوصه المسرحية الأخيرة التي ينتمي إليها «بيت الدمية».
في صراعها مع زوجها هلمر، تجسد شخصيّة نورا بطلة العمل فكرة ورمزاً أراده إبسن فتحاً جديداً في حرية المرأة، وثورتها على التقاليد التي كانت سائدة، ورغبتها في مساواتها مع الرجل في عصره، ما عرّضه لانتقادات وحروب عديدة من النقاد والمثقفين وأصحاب النفوذ في البلاد. بدوره، حاول جيجي مع فريق عمله إعادة طرح جملة هذه القضايا، مشيراً إلى أنّ «هذه النصوص الكلاسيكية العالمية، تصلح للعرض في أي زمان ومكان، ولو أنّ المرأة العربية والسورية قد حصلت على حقوقها وحريتها». لكن يبقى السؤال الأهم الذي أثاره العرض: هل ينبغي الآن أن نفكّر بعقلية عام 1879، وفي بيئة مختلفة عن واقعنا العربي كي نسلط الضوء على معاناة المرأة العربية؟
كان ممكناً محاكمة العرض والأفكار التي طرحها، لو استطاع صنّاعه تحقيق الحد الأدنى المطلوب من السوية الفنية، تحديداً في ما يتعلق بأداء الممثلين الذي جاء بعيداً عن الشكل الذي طالب به إبسن ممثليه: «المسرح أشبه بغرفة أزيل حائطها الرابع، لتكشف للمتفرج عما يجري بداخلها. لكن يجب ألا يفوت الممثل أن يشغل تلك الفجوة التي يطل منها على المتفرج، فكل ما نشاهده على المسرح يخضع لفنه وفكره وإحساسه». غاب الانفعال الصادق عن أداء مجمل الممثلين العاملين في العرض، وتحديداً نورا (هزار سليمان) التي لم تستفد من التصاعد الدرامي، أو الصرعات الداخلية التي عاشتها الشخصية التي أدتها، وصولاً إلى لحظة تمرّدها وخروجها من قفصها. وهو ما ينطبق أيضاً على أداء بقية الممثلين الذين نسي أحدهم في ثاني أيام العرض، إمرار الورقة من تحت الباب في المشهد الأخير. الممثل الواقف على الخشبة، أُرغم في هذا الموقف، على الخروج عن النص ومخاطبة الجمهور «بالعامية» بعيداً عن الحوار المقرّر، للتحايل على الموقف، مثيراً ضحك الجمهور في اللحظة الدرامية الحاسمة من العرض!

«بيت الدمية»: يومياً على «مسرح القباني»، دمشق ـــــ الثامنة مساءً، عدا يوم الجمعة ـــــ حتى 23 كانون الأول (ديسمبر) الحالي. للاستعلام 00963112318019



عقليتان لا تجتمعان؟


كتب هنريك إبسن (الصورة) في المسودة الأولى لنصّ «بيت الدمية» (1879) قائلاً: «يوجد نوعان من القوانين الذهنية، ونوعان من العقليات، أحدهما موجود عند الرجل، والثاني ــــ وهو عقلية مختلفة تماماً ــــ موجود عند المرأة. عقليتان لا تفهم إحداهما الأخرى، لكن في الحياة العملية، يحكم على المرأة حسب ذهنية الرجل» (روما ــ أيلول/ سبتمبر 1878».