إذا شعرت اليوم بأن امرأة خمسينيّة سمراء تتعقّبك في أحد شوارع بيروت، فانعطف عند أوّل زاروب. حاول ألا توقع أي غرض يشي بحياتك الخاصة؛ لأنّها ستلتقطه وتصنع به عملاً فنيّاً. وربّما استوقفتك السيّدة المشتبه فيها، لتقترح عليك أن تذهب وتنام في فراشها، فيما هي تدوّن بعناية كلامك وتصرفاتك وطريقة نومك. حاول ألا تتكلّم من كابينة هاتف عموميّة، فربّما تلصّصت عليك، وسجّلت أحاديثك، لتجد نفسك على شاشة فيديو، على جدار غاليري، في تجهيز أو كتاب. إذا كنت تقطن فندقاً في بيروت، فاحذر من عاملات الغرف، ربّما كانت مندسّة بينهنّ. قد تتسلّل إلى الغرفة في غيابك، وتروح تلتقط كليشيهات لملابسك القذرة وأشيائك المرميّة بإهمال وفراشك «المجعلك»... الخطر في كل مكان اليوم، وتحديداً عند الثامنة في فضاء «أشغال داخلية» في جسر الواطي. نحن مدعوّون عند كريستين طعمة، للاستماع إلى مداخلة تقدّمها صوفي كال (١٩٥٣)، وهذه السيّدة لمن لا يعرفها، تحوّل كل شيء إلى فنّ: حياتها أوّلاً، وحياة الآخرين الذين يعترضون طريقها. كل الأشياء التي تستعملها أو تخترعها تصبح مادة فنيّة، على طريقة مارسيل دوشان. حتّى هدايا أعياد ميلادها المتلاحقة تضعها في فيترينات وتعرضها في متاحف العالم، مع قوائم تفصيليّة بالمحتويات. إنّها مولعة بالجردات والقوائم واللوائح على طريقة جورج بيريك. حياتها، كتَب أحد النقّاد، تشبه رواية (بوليسيّة) عن امرأة تحاول أن تحوّل حياتها عملاً فنيّاً.
صوفي كال هي مخرجة حياتها، نقف عند البرزخ الفاصل بين الواقع والإبداع، تخلق صلات ممكنة مع الناس والوجود، تتداوى بالفنّ من قلقها وخوفها. تبتكر الوضعيّات، على خطى غي دوبور مؤسس «أمميّة مبدعي الأوضاع» تبعاً لسيناريوات مضبوطة، تعيشها ثم تجعلها مشروع تجهيز أو فيديو أو سلسلة فوتوغرافيّة. لكن الصورة وحدها لا تكفي، فهي تستمدّ وجودها وأهميّتها عند صوفي كال من الحكاية التي وراءها، لذلك لا بدّ من نص. تكتب الفنانة كما تصوّر، وتصوّر كما تكتب. وتربطها بالكاتب بول أوستير علاقة أدبيّة غريبة وخاصة، تركت بصماتها بنحو تفاعلي على التجربتين.
صديقها الراحل الكاتب هيرفي غيبير نعتها بـ«صانعة الحكايات». إنّها فنّانة سرديّة، تهندس المواقف والحالات بطقوسيّة مدهشة، انطلاقاً من «مفهوم» معيّن، وحسب قواعد دقيقة... هكذا أعادت تركيب الغرفة ٢٦١ من «إمبيريال أوتيل» في نيودلهي، حيث عرفت أن حبيبها سيتركها، وضمّنتها شهادات بعض الأشخاص عن «آلامهم اللذيذة». ذات مرّة سألت بعض العميان أن يصفوا لها تصوّرهم للجمال. آخر معارضها العام الماضي في باريس، كان تحيّة إلى أمها الراحلة التي «لم تتمكّن من التقاط موتها» حسب عمل فيديو يعود إلى عام ٢٠٠٧. هل ينبغي أن نضيف أن الموت يحتلّ مكانة مركزيّة في تجربة صوفي كال؟
لا نعرف إن كانت الفنّانة «المفهوميّة»، تدرك أنّها هنا الليلة محاطة بناس يقربونها بأشكال مختلفة. غسان سلهب صوّر أشباح بيروت، مثلما راحت تصوّر الأشياء التي اختفت من برلين الشرقيّة بعد سقوط الجدار. ربيع مروّة اشتغل على الاختفاء، وأكرم الزعتري على الأرشيف كمادة فنيّة، ووليد صادق على اللوحة الغائبة... فضلاً عن صاحب العيد، وليد رعد الذي حوّل الأرشيف إلى كذبة (فنيّة) جميلة. صوفي كال التي زارت بيروت في السبعينيات، حين كانت مناضلة ماويّة، وذهبت للقاء الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب، عادت بعد التيه الطويل إلى أرض صديقة.



تناص مع أوستير

بول أوستير نسخ عن صوفي كال شخصيّة ماريا في روايته «مسخ» Leviathan، فإذا بها تقرّر أن تتقمّص بدورها الشخصيّة وتؤديها في الحياة. كأن تقرر وجبة طعام من لون واحد في يوم محدّد، أو أن تعيش يوماً آخر تحت مدار حرف واحد. هكذا في الرابع عشر من مارس ١٩٩٨ مثلاً، أي في يوم حرف الـ W، ركبت القطار إلى Wallonie، واصطحبت كتاب جورج بيريك «W أو ذكرى الطفولة»، وشيئاً من الـ whisky، وعبر سماعتَيْ الوكمان walkman كانت تصدح في أذنيها موسيقى la Walkyrie من تأليف Wagner. ومضت العلاقة التفاعليّة بين التجربتين، أبعد من ذلك، إذ شخصيّات روايته «المسخ»، كتب صاحب «الثلاثيّة النيويوركيّة» للصديقة التي كانت تخيفه في البداية، نصّاً خاصاً بعنوان «تعليمات خاصة لصوفي كال لتحسين الحياة في نيويورك».