«مسيح التحرير»، لقب لم يحصل عليه كثر، لكنّه واحد من أوصافها... هي إنسانة قبل أن تكون طبيبة، ومناضلة قبل أن تُنتخب عضواً في مجلس إدارة إحدى أهم النقابات المصرية: الأطباء. منى مينا كما يعرفها الناس، تغيث كلّ من يستنجد بها. رقم هاتفها في متناول الجميع. تشارك في معظم التظاهرات، سواء تلك المتعلقة بحقوق الأطباء، أو تلك التي تنادي باستكمال مطالب «ثورة 25 يناير». الطبيبة صاحبة الوجه الملائكي، شاركت منذ اليوم الأول في تظاهرات ميدان التحرير، وتطوعت مع المئات من رفاقها في إنشاء ما سمي المستشفى الميداني. خيامٌ أقيمت في ميدان التحرير لإسعاف المصابين من اعتداءات الشرطة والبلطجية، الذين استعان بهم نظام مبارك قبل سقوطه. «كغيري من الأطباء، شاركنا في التظاهرات. لكنّ دورنا كان مختلفاً. مساء الجمعة 28 يناير، كان هناك شباب كثر يعانون إصابات، وكان لدى الجميع تخوّف من إلقاء القبض عليهم، إذا ذهبوا إلى المستشفيات. لهذا أسست المستشفى الميداني» تقول. في تلك الأثناء، بدأ نظام مبارك يترنح، وانسحبت الشرطة من الشوارع، واستعان عدد من رجال الأعمال التابعين للنظام ببلطجية كانوا في الشوارع الفرعية المؤدية إلى الميدان، مانعين الأدوية والأغذية والماء. وفرضوا ما يشبه الحصار، غير أنَّ مجموعة من الشباب كانوا يستطيعون الهروب من هذا الحصار والوصول إلى المستشفى بالمستلزمات التي يحتاج إليها الأطباء لإسعاف المصابين.
فرحت مع المصريين عندما تنحّى مبارك. كانت آخر من ترك الميدان. وقتها ظهرت أصوات قليلة تنادي بمواصلة الاعتصام، في انتظار تحقيق باقي مطالب الثورة. إلّا أنّ الأغلبية كانت مع فضّ الاعتصام، وفتح الشوارع لعودة الحركة المرورية، والذهاب إلى العمل، ومراقبة تنفيذ مطالب الثورة. بعد أيام، عاد عدد من المتظاهرين إلى ميدان التحرير، وكانت منى معهم، لتتولى شؤون المستشفى الميداني من جديد. ترى نفسها مسؤولة عن حياة أي شاب قد يتعرض لأذى، حتى لو اختلفت معه في الرأي. «لا أستطيع الذهاب إلى بيتي وأستريح، طالما هناك معتصم واحد، سواء كنت متفقة أو مختلفة معه».
كان هذا موقفها حتى قبل «ثورة 25 يناير»، إذ كانت من بين 200 شخصية عامة، تطالب بإقالة وزير داخلية نظام مبارك حبيب العادلي، والتحقيق في مقتل سيد بلال، الشاب السلفي الذي توفي أثناء التحقيق معه في حادث الاعتداء على كنيسة القديسين، ليلة رأس السنة الحالية.
«العدالة والمساواة» كلمات ردّدها جمال عبد الناصر كثيراً، وكانت مادة لمعظم الأفلام التي أنتجت في تلك الفترة. ولد جيل السيتنيات والسبعينيات، عاشقاً لتلك المبادئ، وباحثاً عنها طول الوقت. سمعت منى تلك الكلمات وآمنت بها. هكذا أسست في أيار (مايو) 2007 حركة احتجاجية داخل صفوف الأطباء سمتها «أطباء بلا حقوق»، وحاولت من خلالها ممارسة العمل النقابي الذي حرمت إياه نقابتهم بعد سيطرة «الحزب الوطني» عليها، ورفض إجراء انتخابات لعشرين عاماً متتالية. اعتمدت مينا على الشباب في حركتها الجديدة. وفي فترة قصيرة، أصبح للحركة وجود في معظم المحافظات والمناطق، وصار هاتف منى يتلقى شكاوى عديدة من الأطباء، وخصوصاً مع الغياب الواضح للنقابة الرسمية وعلاقة نقيبها في هذا الوقت حمدي السيد بـ «الحزب الوطني» المنحل. دعت الحركة إلى وقفات احتجاجية قبل الثورة، لتحسين أوضاع الصحة في المستشفيات العامة، حيث يعالج فيها فقراء المصريين.
لم تكن تطلب تحسين أجور الأطباء فحسب، بل كانت تطالب أيضاً برفع أجور التمريض، وتحسين مستوى الخدمة الطبية، وتعديل الميزانيات المخصصة لوزارة الصحة، لسدّ الاحتياجات الناقصة في المستشفيات. بعد الثورة، استمرت مطالبات الأطباء: «ميزانية الصحة لا تتجاوز 3.9 في المئة من الموازنة العامة حتى بعد الثورة، رغم توقيع مصر اتفاقات دولية، تقضي بالتزامها أن تكون الميزانية المخصصة للصحة 15 في المئة من الموازنة». تقول منى، وهي تشرح أسباب الدعوة إلى الإضراب الجزئي في المستشفيات في أيار (مايو) الماضي، احتجاجاً على عدم الالتفات إلى المطالب التي يرفعها الأطباء منذ فترة.
أراد الإعلام الرسمي تشويه صورة الأطباء، إلّا أنّ منى كانت تذهب إلى المؤتمرات والندوات لتشرح للمواطنين المعاناة التي يعيشها الأطباء، بأجورهم المنخفضة، وبالإمكانات الضعيفة للمستشفيات. غياب الحماية اللازمة للمستشفيات في ثورة «25 يناير» مثلاً، أدّى إلى زيادة جرائم البلطجة والهجوم على المستشفيات والاعتداء على الأطباء.
الاختصاصية في علاج الأطفال، واحدة من أربع طبيبات دخلن للمرة الأولى إلى مجلس النقابة منذ تأسيسها عام 1930. وكانت واحدة من المعارك القويّة التي خاضتها، وخصوصاً أنّ تيار الإخوان المسلمين ذو قوة في هذه النقابة. خلال عشرين عاماً، استطاع الإخوان المسلمون السيطرة على عضوية المجلس والنقابات الفرعية في معظم المحافظات. إلّا أنّ منى ضربت كل القواعد، وخلعت عن نفسها رداء أنّها امرأة، وأنّها مسيحية، في بلد ما زال يميز بين مواطنيه على أساس الجنس والدين. قرّرت خوض المعركة مرتكزة إلى مواقفها، وإلى رصيد حركة «أطباء بلا حقوق»، فاستطاعت الحصول على أكثر من 14 ألف صوت، لتصبح صاحبة أعلى نسبة أصوات في النقابة الرئيسية في القاهرة. «الأطباء الإخوان زملاء أعزاء»، تقولها مينا وهي ترتدي رداء النقابية، وتكمل: «لسنا أعداءً في أي حال، وسنعمل على التعاون طالما هناك قضية تشغل الأطباء عامة».
مشاركتها في العمل العام، وفي الثورة، أو ربما علاقتها بالتيارات اليسارية جعلتها تؤمن بالدور المهم للنقابات. «النقابات تستطيع دوماً تصحيح المسار، والدفع بالأمور في الاتجاه الصحيح». وفي موقعها الجديد، ستستغل كل ما لديها من قوة لرفع مطالب الأطباء: «سنطالب بتحقيق أهم المبادئ التي رفعتها الثورة، الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية». حالة الإعجاب بمواقف منى تزداد كل يوم، إلى درجة أن مجموعة من الأطباء دشنت صفحات على فايسبوك ترشِّحها تارة لمنصب وزير الصحة، وطوراً لتكون أوّل نقيبة للأطباء في مصر. إلا أنّ مينا تردّ دائماً: «شكراً لكل الزملاء الأعزاء، أعتزّ بتقديركم، لكنّي أتمنى أن نتواصل في صفحة «أطباء بلا حقوق»، لا في صفحة تحمل اسمي. باختصار، أعتقد أنّ التواصل حول أفكار ومبادئ عامة، أهم من التواصل حول الأشخاص».
«آسفة... الوقت ده من حق النقابة». هذه صيغة اعتذار بسيطة ساقتها الطبيبة منى مينا، عندما أردنا التمادي في الحديث. طلبنا منها موعداً آخر بعد انتهاء العمل في النقابة... فاعتذرت أيضاً: «لدي لقاء مع مجموعة من الأطباء لديهم مشكلة». هذه هي حالها، وقتها محجوز للعمل النقابي، والمشاركة في الشأن العام، لكنّ من يعرفون الطبيبة الشابة، يدركون أنّ تهربها فيه الكثير من التواضع والخجل، فهي تبغض كثيراً أن تتحدّث عن نفسها.



5 تواريخ

1958
الولادة في حي روض الفرج (القاهرة)

1983
تخرجت في كلية الطب في «جامعة عين شمس»

2003
اعتقلت في التظاهرات المناهضة لحرب العراق

2007
أسست حركة «أطباء بلا حقوق»

2011
انتخبت عضواً في مجلس نقابة الأطباء