لم تتغيّر كائنات سعد يكن (1950) كثيراً، ربما ازدادت وحشة وعزلة وريبة. «الآخر» عنوان معرضه المقام حالياً في غاليري «آرت هاوس» في دمشق، ينطوي على فجائعية أكبر. مسوخه المتطاولة تكتب سيرتها في لحظة غائمة. الأحمر يضعنا في قلب العاصفة. نتتبع أثر الدم عند تخوم اللوحة. هناك جريمة تحدث. كراسي المقهى فقدت بعض روادها.
من بقي منهم ينظر نحونا بضجر وخشية وفزع. الآخر مجهول الهوية يفتّش عن ذاته في وجوه الآخرين. الحشود المتلاصقة، يجمعها الخوف أكثر مما تجمعها الطمأنينة. هكذا يبني هذا التشكيلي الحلبي المعروف، مسرحه اللوني، فوق خشبة مهتزّة تعصف بها ريح عاتية، تكاد تطيح الجوقة قبل أن تكمل صرختها الأخيرة. كأنّ سعد يكن أراد أن يقوم بجردة حساب لما أنجزه طوال العقود الأربعة الماضية، وفحص ما آلت إليه شخوصه في تحولاتها المختلفة. سنفتقد صبري مدلل، المغنّي الحلبي بحنجرته المجروحة بالأشواق الصوفية، والرسّام الرائد لؤي كيالي، الذي انتهى منتحراً. في ركن آخر، سنلتقي عازف بيانو غارقاً بالأحمر، وراقصة تحلّق في فضاء العزلة، كأنها تدور في مقبرة للمومياوات. 27 لوحة بأحجام مختلفة، تستحضر تاريخاً غامضاً ومترعاً بالشهوات المضمرة، لكائنات حائرة بين آدميتها وقلقها من فخاخ تنتظرها عند العتبة الأولى للحلم. تتطاير الأوراق البيضاء من بين أصابع رجل وحيد، يتكئ على طاولة تغرق بالأحمر. الأرجل في كل أعمال سعد يكن حافية تنتهي بأظافر طويلة، كأنّها لبهائم تستعد للانقضاض على «الآخر» في مقعده المجاور.

ربما كانت قصيدة الشاعر الأسباني رفائيل ألبيرتي «أنت في وحدتك بلد مزدحم»، هي البؤرة التي تتكوّن منها تلك الخطوط الخشنة والنزقة والقاسية، في توصيف العزلة. الصخب اللوني المتواتر ما هو إلا مرجعية للحيرة التي تسكن أعماق شخوص هذه اللوحات. لا يدع سعد يكن وجوهه الشاقولية في وحشتها، بل يأخذها إلى أقصى تخوم جحيمها، أو انزلاقها إلى التهلكة. وجوه معذّبة، تائهة، وحزينة، تفتقد الملاذ والخلاص. قد تبدو تجربة هذا التشكيلي تراوح مكانها، لكنّ نظرة فاحصة إلى خطوطه وألوانه، واشتغاله على الظلال، تنبئ عن تعبيرية أكثر احتداماً، وإن انزلقت في بعض صياغاتها إلى حلول غير مدروسة بعناية، لمصلحة التزيين، وخصوصاً في ما يتعلّق بالسطوح وهندستها الصارمة التي تقوّض درامية وحركية وغنائية الشخوص. فيما يلتقط نبضاً مدروساً في أعمال أخرى، متخذاً من الحركة الدائرية عتبة لاحتدام خطوطه. كأنّ مخلوقاته تحلّق في جحيم عاصفة، ستخلع أوتاد الخيمة وما فيها.
يرمّم سعد يكن فضاء المقهى على نحو مختلف عمّا ألفناه في أعماله السابقة. الكراسي تتطاول في رقصة جنائزية، فيما يدير من بقي من رواد المقهى ظهورهم إلى ذلك الماضي الملتبس. لكلّ كرسي ذاكرة مغلقة على وقائع لم تعد موجودة، أو أنّها ممحوة بغياب روادها. سوف نستعيد ذاكرة «مقهى القصر» الحلبي. المقهى الذي كان مخزناً للوجوه، قبل أن يندثر إلى الأبد. لعل التكرار هنا هو إلحاح لاستعادة ذاكرة مستباحة، مثلما هو عمل مضاد لأرشفة تاريخ الشارع الحلبي، بمقاهيه وحاناته وجدرانه ولياليه المجنونة، من دون أن يتوقف عن توثيق الفاجعة، ونبش ما هو داخلي وحميم وسرّي، غير عابئ بدروس الآخرين.
في أوائل السبعينيات، وضع سعد يكن نصب عينيه مشروعه الشخصي خارج أبواب الأكاديميات. بعد انتسابه إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق، هجرها في السنة الثانية للدراسة، وعاد إلى مدينته حلب ليستنشق هواءً يعرف رائحته جيداً. يتذكّر وليد إخلاصي شاباً كان يأتي إلى بروفات المسرح القومي، ويتخذ ركناً قصيّاً من المسرح، ليبدأ رسم وجوه الممثلين وحركتهم فوق الخشبة، في تمرينات شاقة على توزيع النور والظل في هذا الفضاء المغلق. على الأرجح، فإن سعد يكن، منذ ذلك الوقت المبكّر، لم يغادر خشبته الخاصة، وإن تغيّرت موضوعاته. سنجد مسوخه وكائناته الغرائبية في «طوفان نوح» وهي على وشك الغرق، وسوف ترافق جلجامش وأنكيدو في رحلة البحث عن عشبة الخلود، وشهرزاد في أسرار «ألف ليلة وليلة». ستتشبث بجدار آيل إلى السقوط تارةً، وتتكئ على كمنجاتها في «الطرب في حلب» طوراً، تنصت باستغراق وشغف إلى القدود الحلبية في إيقاعات تملأ فراغ المكان بأشواق ورغبات وصبوات متنافرة. ذلك أن التنافر سمة أساسية في بناء الكتلة. عشاق هالكون، وشعراء خائبون، وقراء صحف يفتشون عن أسمائهم في صفحة الوفيات. هذه المشهديات المتتالية لبشر يعيشون عزلتهم وآلامهم وفجائعهم، بين جدران كتيمة، هي الأرشيف الضخم والمدوّنة البصرية التي ينضح منها سعد يكن هويّات أبطاله فوق خشبته الافتراضية. يصغي إلى أعماقهم، ويرشق ما اختزنته من آهات حبيسة، وخدر، ورفض، إلى السطح، وإذا بنا حيال أوركسترا تعزف موسيقى الجموع، وسط خراب روحي مدمّر، لا يحتاج إلى معاينة كبيرة لاكتشاف حجمه.



«الآخر»: حتى29 تشرين الثاني (نوفمبر) ــــ غاليري «آرت هاوس» (دمشق). للاستعلام: 00963116628112

لقد تم تعديل هذا النص عن نسخته الأصلية المنشورة بتاريخ 24 تشرين الثاني 2011