هل يمكن التأسيس لعلم اجتماعي ـــــ سياسي يدرس الغائلَ والمغتال؟ أين هو موقع السوسيولوجيا من تفكيك العنف الرمزي والمادي؟ وما معنى انطواء الظاهرة الاجتماعية الكلية على ميول انتحارية، على حد تعبير إميل دوركهايم؟ وماذا عن الاغتيال البيئي والسياسي والفردي والجمعي؟ تؤلّف هذه الإشكاليات عماد أطروحة عالم الاجتماع اللبناني خليل أحمد خليل «الاغتيال حرب الظلال والعنف المقدس»

(دار الفارابي). بدءاً من السطر الأول، يطرح الكاتب أفكاراً فلسفية شديدة التعقيد، إن لناحية التداخل الحاد بين ما هو رمزي وسياسي في علم الاغتيال، وإن لجهة تجليات العنف الكامن والمستديم عند الفرد والجماعة والدولة. في الجزء الأول، يعالج التمثلات الجنينية لعلم الاغتيال وفلسفته، ويتضمّن إجابات صادمة، يمكن وضعها تحت سؤال إشكالي: نحمل في ذواتنا العنف الفطري، وعلينا بالتالي تقديم اعتذار إلى روسو، المنادي بالطبيعة الفطرية الخيّرة عند الإنسان.
لا يعالج صاحب «العقل في الإسلام» طبائع عنف الأفراد والجماعات فحسب، بل يحيلنا على عالم حديث مسكون بالاغتيال، تؤرقه فوضى الحروب المدججة بالسلاح والمال. وليس من السهل معالجة اقتراح الكاتب بتأسيس علم الاغتيال من زاوية فلسفية، ما يدفع القارئ الى التساؤل «هل للاغتيال من فلسفة؟». من حيث الممارسة والفطرة، تبدو الجماعات البشرية أشد ميلاً إلى العنف الذي تقدسه بدعوى الحفاظ على الذات من الآخر الشيطاني. هنا، يتبادل المقدس والعنف، في لعبة مزدوجة، قوامها إقصاء الآخر، وعزله، وأحياناً قتله، فما الذي يمنع العلماء والمفكرين من تأسيس علم اجتماع التسالم لا التغالب؟
يحاول خليل التصدي لأكثر من فرضية بمنهج فلسفي/ تفكيكي. وعلى هدى القلق السلمي الذي يؤرقه في معاينة ظاهرة رافقت الطبيعة والإنسان ـــــــ أي ظاهرة الاغتيال وتقديس العنف ـــــــ يعمل على ملاحقة القتل بمدلوله الرمزي والمباشر، ويكشف حقيقة أوليّة «الإنسان العاقل/ الآكل»، يملك مقومات العقلية الذئبية/ الغولية التي تفترس كل ما حولها على قاعدة الضحية ككبش فداء للجميع.
قد يسعفنا كتاب رينيه جيرار الشهير «العنف والمقدس» في تشريح المنطلقات النظرية التي درسها خليل. وهو استعان به في أكثر من موضع في أطروحته لتشريح إشكالياته، حول علم الغائل والمغتال. ورغم ما يبديه الكاتب من مخاوف على الإنسان من تفاقم الثقافة الغولية، الرأسمالية والبيئية تحديداً، إلاّ أنه لا يخفي توجسه من الإنسان المعاصر نفسه.
البعد الفلسفي يسيطر على مفاصل الفرضيات والأفكار التي ناقشها الكتاب. هو لا يسعى إلى تقديم تورخة زمنية للاغتيالات في الغرب والشرق، وإنما يتحّرى عنها من زاوية معرفية تهدف إلى قراءة متعلقات الاغتيال والعنف القديم والحديث، بدءاً من أسطورة الأساطير، أي حين ارتكب قايين أولى الجرائم البشرية.
يدرس الكاتب رمزية الاغتيال والعنف بأنواعها المتداخلة عبر الزمان والمكان. وصحيح أن هذا الشرق الدموي تكبله أنماط «العنف الآسيوي» كما يصنفه صاحب «المرأة العربية وقضايا التغيير»، لكن للغرب عنفياته وأدواته الاغتيالية، عبر التغول الرأسمالي وإنتاج السلاح وقتل البيئة وأجهزة الاستخبارات العالمية. وطبقاً لهذه المعادلة الصعبة تظهر ثنائية شرق من دم وغرب من سلاح.
يسلط الكاتب الضوء على أنماط العنف الآسيوي من أبواب متعددة تبدأ بالاغتيالات المتفاقمة، ولا تنتهي بالاستبداد الشرقي. وفي هذا السياق، يضيء خليل على أزمة الآخر، وكيفية التعامل مع التعددية، طارحاً الإشكالية الفلسفية المضادة، أيّ أهمية للأنا دون الآخر؟ الأنا القاتلة، حاضرة على الدوام لأن المجتمعات بطبيعتها تقوم على صراع الأضداد والبقاء. وهذا ما يؤشر إلى أنّ هذا العالم لا يعطي أي فرصة للضعفاء، على طريقة داروين الذي خلص إلى النتيجة التالية: البقاء للأقوى. بناءً على هذه المواجهة، يقارع الكاتب المخاطر الناجمة عن اغتيال الطبيعة بيد الإنسان هذه المرة.
يطالب الكاتب بدراسة علم الاغتيال بتشعباته وأنواعه بمناهج العلوم الحديثة لا بإحالته على الوهم الديني الذي درسه سيغموند فرويد في كتابه «مستقبل وهم». العنف الحيواني، العنف البيئي، العنف السياسي، العنف البشري، العنف الرأسمالي، العنف الطبعي، العنف الرمزي، تحت هذه العنفيات وغيرها تتصاعد الاغتيالات، بصرف النظر عن الاختلاف في الدرجة والنوع والكيفية. وضمن هذا الإطار، يتوصل صاحب «سوسيولوجيا الجمهور الديني السياسي في الشرق الأوسط المعاصر» إلى خلاصة أساسية: «الذئبية تسود العالم»؛ فكيف يمكن التعامل مع التغوّل البشري الحديث؟
من العام إلى الخاص، يتعقب الكاتب كرونولوجيا الاغتيال والعنف في الشرق الأوسط، ويجعل من لبنان أحد أبرز النماذج، فيستهل حقبة الاغتيالات من عام 1949 الذي شهد المحطة الأولى بقتل أنطون سعادة، إلى أن يصل إلى الزلزال الكبير باغتيال رفيق الحريري. ما هو الجامع المشترك بين المتعاقبين على الاغتيالات في مختلف الحالات اللبنانية؟ يصل خليل إلى جملة من النتائج بعد قراءته لهذه الظاهرة: أولاها، نفي الصفة الشخصية الإنسانية عن القتيل وتجريد المقتول من حقوقه؛ ثانيتها، إسقاط التبعية المعنوية عن القاتل المادي بدعوى أنه قاتل سياسي؛ ثالثتها، القتيل منسوب بنظر القاتل إلى عدو، والعدو يجب قتله بلا عقوبة؛ رابعتها، استعمال السياسي للتخفيف من الجرم الفردي.
للاغتيال في لبنان وجه آخر يضعه الكاتب تحت تسميه «التغول الطائفي» الذي أجهض ويجهض بناء الهوية الوطنية، والذي يقابله في العالم العربي التغول الاستبدادي. فما الذي يؤهل المجتمعات العربية لإنتاج هذا الكمّ المخيف من العنف تحت تسميات مختلفة؟ هل هذا نتاج طبيعي لأزمة اللادولة. وبدورنا نسأل هل سيكون الفرد الرقمي في الحراك الثوري الجاري، قادراً على بناء دولة حديثة تحافظ على التعدد وتقلص إنتاج العنف الدوري؟
«الاغتيال حرب الظلال والعنف المقدس» أطروحة تأسيسية ودعوة علمية إلى تأسيس علم الاغتيال. وقد تعقب خليل مختلف أنماط العنفيات بعناوينها المتشعبة، لكن فاتته معالجة عنف النصوص الدينية المقدسة، رغم إطلالته السريعة على دور الفتوى ورمزيتها السياسية/ الدينية التي أهدرت دم كثيرين من قوى اليسار العربي عموماً، واللبناني خصوصاً. يبقى أن الذئبية الفردية والجماعية هي التي تغلَّب التناكر على التفاكر كما يلحظ الكاتب، فهل يمكن الحديث عن علم اجتماع السلام مقابل علم الاغتيال وفلسفته؟