«الهواء البارد يلفح وجهي من نافذة السيارة، والصداع قد تلاشى بفعل القهوة والمسكن، وتبقى من أثر الفودكا خدر لذيذ وإحساس بالخفة والتطاير. تركت نفسي للطفو فوق المكان والزمان». يمكن العبارة الأخيرة أن تعدّ تلخيصاً لجديد ياسر عبد اللطيف «يونس في أحشاء الحوت» (كتب خان/ القاهرة). مجموعة قصصية، يربط بين معظم نصوصها العشرة خيط شفاف من التذكر الحلميّ، ووقائع تتداعى ـــ كما في الحلم ــ من دون عوائق الزمان والمكان، بلا ألم أو بهجة، بل رصد هادئ يناسب الراوي الذي تنتهي به قصة «في مدينة التلال والنهرين» مستسلماً لخدر الفودكا، في سيارة صباحية تقلّ مهاجرين عرباً في فرنسا. في معظم النصوص، تمّحي السنون لتتجاور مشاهد الطفولة والنضج،

لا أحكام هنا على أحد، بل بعض ندم وتمنيات فات أوانها. «ربما لو كنت قد صادفت مثل ذلك الحب في صدر مراهقتي، لأعفيت من الخوض في طرق مظلمة، أسهمت في تخريب روحي» (حلم ليلة حرب). أمنيات لا سبيل لإصلاحها سوى عبر الحلم. في «ترتيب الأرفف»، يحلم الراوي بأنّه عاد إلى مدرسته القديمة، وهو حلم معتاد عند الناس. «لكن حلمي بالمدرسة هذه المرة كان واقعياً في جانب منه. كنت في الحلم كبيراً، في عمري الحالي، وكنت أحاول إقناع الإدارة بقبولي في المدرسة مرة أخرى، ولو بصيغة انتساب أو استماع، كما في الجامعات، وفي نيّتي أن أستعيد الزمن القديم لأصحح خطأ ما حدث في الماضي». ما لم يكن يعرفه الراوي هو: هل كان سيلتحق بدفعته الدراسية القديمة نفسها، أم بدفعة حديثة من مراهقين «أكون في وسطهم كالعم الخائب»؟
في معظم نصوص المجموعة، لا تقف العودة الطفولية إلى الأزمنة المفقودة حائلاً دون إفصاح الجسد عن نفسه، سواء رغبة أو ألماً بغضّ النظر عن رومانسية اللحظة. «جالسين كنّا على درج رخامي لأحد هذه المباني الجامعية الخاوية نستمع لصوت الصمت، وتخرج منا الكلمات على فترات متباعدة، فيما تتلامس يدانا بشوق ورغبة محتدمة، عندما فجأة نظرت إلى فرع ضخم متدل من شجرة تين بنغالية وقالت: لو يدخل فيّ هذا الفرع بكامله!». النصّ هو «لقاءات قريبة من النوع الرابع»، والعنوان إحالة ذات مغزى إلى فيلم سبيلبرغ «لقاءات قريبة من النوع الثالث»، إذ يلتقى الراوي بحالات إنسانية ليس لها تفسير عقلاني مقبول، لكنّه ــــ كما في كل نص آخر في المجموعة ـــ يتعلّم أن يتقبّل وجود كل شيء، الرغبات والأحلام أو حتى ذكريات لا أساس لها.
عنوان الكتاب «يونس في أحشاء الحوت» استعارة أخرى، من قصيدة لنجيب سرور. في قصة العنوان، يتوه الراوي في «أحشاء» مول تجاري عملاق، يخوض داخله تجربة مدهشة ومخيفة بالقدر ذاته. أما في النص القصير «الرسُل»، فلا يذهب الأب إلى مأتم قريبته متعلِّلا بحالته الصحية، «بينما حقيقة كونه التالي في الترتيب العائلي من الموت قد أعفته أمام نفسه من كل المسؤوليات». يرسم النص مشهداً يستمد كابوسيته من واقعية بلا شفقة. «في صباح اليوم التالي للمأتم، جاء أشقاؤها الثلاثة ليقدموا إليه هو واجب العزاء (...) كان الوضع مقلوباً، وفي مقلوبيته تكمن كل قسوة الصراحة». المؤلف الذي صدر له ديوانان نثريان، ينهي النص كما ينهي قصيدة «كأنهم في زيارتهم رسل يحملون رسالة، لا حاجة إلى فض مظاريفها، وقد ختم الموت عليها بخاتمه الأسود».