لا يزال مبتدئاً في التعاطي مع هجمة الكاميرات الفضوليّة. يحتفظ ألكسي جيني بمنسوب عالٍ من العفويّة، يفتقده المكرّسون ممّن يحترفون قياس الكلمات. حين التقيناه في «معرض الكتاب الفرنكوفوني» في بيروت، قبل يومين من نيله جائزة «غونكور» في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، كان قد أرخى ذقنه، ونسي على الأرجح كيّ قميصه الأبيض الرقيق.
لا يصطنع صاحب «فنّ الحرب الفرنسي» إجابات عميقة ولائقة... يردّ على أسئلتنا كمن يخوض في دردشة تعارف صباحيّة، مع صديق جديد، في مدينة جديدة. يضحك بتلقائية حين يحكي عن باكورته، كأنّه يروي آخر نكتة سمعها. ما زال ابن مدينة ليون جديداً على الشهرة التي منحته إياها «دار غاليمار»، إذ بادرت إلى نشر روايته، وهي خطوة مهمّة على طريق الغونكور. تتقن عملاقة النشر الفرنسي صناعة النجوم. فمنذ آب (أغسطس) الماضي، روّجت لرواية ألكسي «العبقري»، أستاذ علوم الحياة المغمور الذي صار اكتشاف الموسم. لكن بعيداً عن استراتيجيّات التسويق، أجمع النقّاد على الإشادة بالوافد الجديد. تحمرّ وجنتا ابن الثامنة والأربعين حين تذكّره أنّ جوزيه ساراماغو نفسه لم ينل الشهرة الأدبيّة إلا بعد الخمسين، حين نشر «وجيز الرسم والخطّ» عام 1977. «لن يغيّر هذا النجاح حياتي بين ليلة وضحاها. فأنا لا أكتب لأكسب عيشي، ولم أعد في الـ 25 لأغرق في الأحلام».
صحيح أنّ «فنّ الحرب الفرنسي» روايته المنشورة الأولى، إلّا أنّ جيني يكتب منذ 20 عاماً، فالكتابة وصفته الأثيرة لـ«تحسين المزاج»، كنوع من «التعويض عن هذا العالم الباهت، والمبتهج». كما يرسم غالباً، وينشر اسكتشاته البسيطة على مدوّنة خاصّة بعنوان «رحلات غير بعيدة». لا يسافر جيني كثيراً، بل يكرّس وقته لطلّابه في إحدى ثانويات ليون. إلى جانب كلّ هذا، أمضى سنواته الخمس الأخيرة، يتنقّل بين مقاهي المدينة، مدبّجاً بصمت وأناة مخطوطته الضخمة (640 صفحة). يتعاطى جيني مع فنّ السرد كصنعة. «اللغة أولاً. فالأسلوب أهمّ من القصّة». أحد النقّاد ذهب أبعد من ذلك ليقول إنّ بحث جيني الأسلوبي يتقدّم على القصّة بأشواط في «فنّ الحرب الفرنسي». لكنّ الرواية لم تلقَ إقبالاً جماهيرياً لخصالها اللغويّة، بل لغواية مضمونها المشبع بإسقاطات سياسية وتاريخيّة. في وقت كانت فيه فرنسا ساركوزي تخوض معركة «تحرير» ليبيا، وتصرّ على فتح نقاش الهويّة الوطنيّة، ظهر هذا الكاتب السرّي على الساحة، ليخرج أشباح الماضي الكولونيالي الفرنسي من القمقم ويحاورها. لكي ينجز مهمّته، استعار نفساً سيلينيّاً سوداوياً، واستلهم آباء الأدب الروسي، لناحية تمجيد التفاصيل، والإطالة. هكذا جاءت الرواية متأرجحة بين لغة ساخرة منعتقة من أي اهتمام جديّ بشجون العالم من جهة، وأسلوب ملحميّ يغرف من إرث هوميروس من جهة أخرى. كلّ هذا للإجابة عن سؤال واحد: ما معنى أن تكن بطلاً؟
تأخذ البطولة تأويلات سلبية في الوعي الفرنسي الراهن، بحسب جيني. الروائي الذي نشأ في عائلة يساريّة تمقت العسكر، أراد إعطاء وجوه وهويّات لرجال شاركوا في حروب فرنسا الاستعماريّة. روايته كناية عن حوار بين راوٍ شاب يتابع عبر الشاشة انطلاق حرب الخليج الأولى، وأستاذه في الرسم، فيكتوريان سالنيون. هذا الأخير عسكري مظلّي سابق، شارك في الحرب العالميّة الثانية، وقاتَلَ على جبهة الهند الصينيّة والجزائر. انشغل جيني ـــ كأنّه يحاول «حياكة الزمن الفرنسي الممزّق»، ـــ بالجمع بين جيلين تفصلهما سنوات طويلة من القطيعة والنسيان. يخبرنا أنّه قام بمجهود توثيقي وبحثيّ ضخم، لتسجيل المعارك وتفاصيلها... وإذا به يخرج بـ«رواية مغامرات».
لا تنطلق «فنّ الحرب الفرنسي» من أطروحة مسبقة: «أردت أن أسأل: العسكري إنسان عادي، فكيف يتصرّف إذا وضع في حالة قصوى، مثل الحرب؟ أردت أن أتأمّل كلّ هذا من الخارج، من دون حنين إلى ماضٍ انقضى، ومن دون الغرق في شعور بالذنب بفعل حروب لم أشارك فيها». هكذا يأتي خطاب جيني في الرواية ملتبساً: فهل عمله محاكمة للحرب ولتاريخ الاستعمار؟ أم حكاية مصالحة مع ذلك التاريخ، لا تخلو من نظرة إعجاب إلى «أبطاله»؟ كأنّ السياسة والتاريخ، ليسا هنا إلا ديكوراً لسجال حميم بين شباب فرنسا ومحاربيها القدامى. يزيد من التباس الخطاب ما يقوله جيني حين نسأله عن رأيه بالتدخّل العسكري الفرنسي في ليبيا: «إنّه تدخل تقني بحت»، يجيب. برأيه يمكن نجاح الربيع العربي أنّ يحلحل خيوط أزمة المهاجرين في الضواحي الباريسيّة: «قد نقول، مع بعض سوء النيّة، إنّ وجود إسلام ديموقراطي قد يحلّ الكثير من المشاكل عندنا، لأنّه دليل على أنّ بلداً عربياً ومسلماً قادر على أن يكون حديثاً وديموقراطيّاً». عجباً لهذه المعادلة التي تضع الاسلام والعروبة في طرف، والحداثة والديموقراطيّة في الطرف النقيض. لعلّها لعبة ذهنيّة عابرة... أم أن الرجل الذي سيصبح بعد يومين صاحب «غونكور»، رغم تواضعه الشديد، ونقده لتلاعب اليمين الفرنسي لـ«سجال الهويّة الوطنيّة»، لم يشفَ تماماً من نظرة الرجل الأبيض إلى المستعمرات القديمة؟