هجوم على مقرّ المجلّة في باريس، وقرصنة لموقعها، وتهديدات إلكترونية ضدّ العاملين فيها. هل كانت مجلة «شارلي إيبدو» لتتوقّع رد فعل مماثلاً على عددها الأخير «شريعة إيبدو» ؟ أم أنها تعمّدت البحث عن كل هذا العنف والغضب؟ إدارة المجلة أعلنت أمس أنها فوجئت بالهجوم الذي تعرّض له مقرّها الباريسي. رئيس تحريرها ستيفان شاربونييه، المعروف باسم Charb، وجّه اتهامات واضحة لجهات إسلامية بتنفيذ الهجوم، مضيفاً « لن نقدّم تنازلات للإسلاميين... وسنستمر». وبالفعل ستستمرّ المجلة رغم التخريب الكبير الذي تعرّضت له. وقد توجّه فريق عملها إلى مقرّ صحيفة «ليبراسيون» التي تبرّعت بمكاتبها للمطبوعة كي تتمكّن من إصدار العدد المقبل.
لكن ما الذي حدث بالفعل ليل الثلاثاء ــ الأربعاء؟ مجموعة من الغاضبين ــ لم تحدّد الشرطة هويّتهم بعد ــ رمت قنبلة مولوتوف على مقرّ «شارلي إيبدو» في باريس، ما أدّى إلى احتراق كل المحتويات الموجودة في المكاتب. وبالتزامن مع هذا الهجوم، اخترق قراصنة موقع المجلة الإلكتروني، ووضعوا على صفحتها الأولى صورة لمدينة مكّة مع عبارة «لا إله إلا الله».
وكان قد سبق هذا الاعتداء العنيف حملة على الشبكة العنكبوتية انطلقت الإثنين الماضي تتّهمها بالإسلاموفوبيا، وبمحاولة استفزاز مشاعر المسلمين في العالم، وتحديداً في فرنسا. أما سبب كل هذا الغضب فهو العدد الصادر أمس من المجلة والذي يحمل عنوان « شريعة إيبدو ». وقد اختار فريق العمل تعيين النبي محمد رئيساً لتحريره، في محاولة للسخرية من فوز «حركة النهضة» في الانتخابات التونسية، وإعلان مصطفى عبد الجليل اعتماد الشريعة الإسلامية في ليبيا.
قد يبدو مضمون المجلة صادماً للبعض، إلا أن من يطّلع على أرشيفها يكتشف أنّ مجلة الكاريكاتور هذه، غالباً ما تلجأ إلى السخرية من الأديان في إطار سياسة عامة، « لا محرّمات فيها» كما قال Charb أمس. هكذا نتابع على صفحاتها انتقادات للبابا، وللراهبات الكاثوليكيات، وحتى للمسيح. وقد شكّلت المجلة إلى جانب «لو كانار أنشينيه» ــ مع الاختلاف الواضح بالمضمون ــ أبرز مطبوعتَين متخصصتين بالكاريكاتور في فرنسا. وهذا الفنّ الذي اشتهرت به «بلاد الأنوار» منذ القرن التاسع عشر مع أونوري دومييه الشهير، بات وسيلة التعبير الأكثر قدرة على الوصول إلى الفرنسيين.
وبين المسلمين الغاضبين وهذه المجلة الأسبوعية تاريخ من المواجهات، كان أبرزها في عام 2006، حين أعادت نشر الرسوم الدنماركية التي تصوّر نبي المسلمين. إلا أن القضاء الفرنسي برّأ المجلة من كل الاتهامات الموجهة إليها، وأبرزها معاداة المسلمين. هجوم أمس ــ الذي استنكره كل الأطراف في فرنسا، بما فيها المنظمات الإسلامية ــ أعاد إلى الواجهة مرة أخرى الجدلية القديمة ــ الجديدة حول سقف الحرية في الصحافة، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالأديان... وبالإسلام تحديداً. إذ يعيش في فرنسا ما يقارب خمسة ملايين مسلم، يقيم معظمهم في ضواحٍ مهمّشة، ويعانون من تمييز عنصري، غذّته سياسات السلطة الحالية برئاسة نيكولا ساركوزي.
في ظلّ هذا المناخ المحتقن والمتوتّر، هل كان خيار نشر رسوم تستفزّ مشاعر المسلمين خياراً صائباً؟ قد تأتي الإجابة عن هذا السؤال نسبيةً، خصوصاً أنّ فريق التحرير يعد « شارلي إيبدو » مجلة المسلمين الذين يتمتّعون بحس الفكاهة... «نعم لحرية التعبير ، لا لقمع الأديان»، كتبت المجلّة على حسابها الخاصّ على «تويتر».
لكنّ الحرية في انتقاد كل الأديان، لا تبرّر مضمون العدد الأخير من المجلة، بحسب المدير المساعد في صحيفة «لو موند ديبلوماتيك » ألان غريش. «انتقاد المسلمين في فرنسا،ليس شجاعةً. فهنا بالإمكان الحديث والكتابة عن كل شيء تقريباً»، يقول . ويقارب الصحافي الشهير الملف من زاوية مختلفة عن تلك التي عالج فيها الإعلام الفرنسي الموضوع: «انتقاد المسلمين في فرنسا اليوم، يشبه انتقاد اليهود في ألمانيا عام 1930... في الحالتين هناك معاداة لطائفة معيّنة». ويرى غريش أن ما حدث أمس، يعزّز الإسلاموفوبيا في فرنسا وأوروبا، ويقوّي التيارات اليمينية المعادية للأجانب، مشيراً إلى أن التضامن مع المجلة له أبعاد خفية بالنسبة إلى أطراف عدة: إن «هذا الهجوم العنيف على مقرّ « شارلي إيبدو » مدان طبعاً. لكن بعض المدافعين يخفون نوايا أخرى، ومن بينهم مثلاً وزير الداخلية كلود غيان الذي لم نره يوماً يستنكر الاعتداءات على دور العبادة المسلمة».



هل تذكرون سينيه؟

عند الحديث عن مجلة «شارلي إيبدو» لا يمكننا إلا العودة إلى العام 2008، عندما طردت المجلة أحد ابرز الرسامين فيها وهو موريس سينيه. أما السبب فهو رسمة تصوّر جان ساركوزي (ابن الرئيس نيكولا ساركوزي) عند اعتناقه اليهودية. وقد شنّت حملات عنيفة على الرسام الشهير تتهمه بمعاداة السامية. وقتها أيضاً برز تياران على الساحة الإعلامية في فرنسا، الأول يدافع عن سينيه وعن حقّه بالتعبير عمّا يريده على صفحات المجلة، فيما رأى آخرون أن الرسمة تظهر بغضاً واضحاً لأبناء الطائفة اليهودية. وفي العام 2010 أنصفت المحكمة سينيه وأجبرت المجلة على تعويضه مادياً و... معنوياً.