الرباط | وديع سعادة نبّاش قبور كبير. يخرج الجثة من قبرها ويعيد منحها الحياة. في قصيدته، ليست الجثة سوى الكلمات والأشياء الأقل شعرية التي تنتظم في نصه لتحوّله إلى أيقونات شعرية بامتياز. قصيدة وديع سعادة قصيدة وجودية، متخففة من كل الميثولوجيات. وهي بذلك تخلق جدواها الوحيدة في الشعر. يكتب أحياناً كمن ينتحر. وأحياناً كضائع في الطرقات يناجي صنوه جاك كيرواك: «كثير من الأخطاء في الإشارات والأسماء على الطريق يا جاك كيرواك/ الأسهم المشيرة إلى أمكنة/ توصل إلى أمكنة أخرى/ واليافطات المكتوب عليها ينابيع/ صحارى». أحياناً، يتعرى أمام هشاشته حين «وضعَ نقطة ماء في صحن/ كي تشرب الذبابة/ وسلَّم نفسه للريح كي تأخذه الفراشات».
في ديوانه الأخير، نحدس ترتيباً لذاكرة شخصية تماماً كما في ديوانه السابق «تركيب آخر لحياة وديع سعادة» (2006). يصالح ذاته، ويناجي أصدقاءه الراحلين سركون بولص، وبسام حجار، وآلن غينسبرغ، وكيرواك.
لكن في «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب؟»، يكتب سعادة بطريقة مختلفة بعض الشيء عما كتب سابقاً عن الموت. الكلمة تحضر قوية، وواضحة في دواوين سابقة للشاعر. لكن هنا تخفت بل تختفي تقريباً. تحضر كلمة «موت» تسع مرات في الديوان (أربع مرات في فقرة واحدة). لكن حضور الموت بين قصائد أخرى ــ من دون أن يسميه ــ يحيل بشكل واضح إليه.
أشخاص وديع سعادة مجهولون. قد يكونون أي شخص من هذا العالم. بجنسيات مختلفة وبقضايا متنوعة. لكنهم أساساً أبناء قلق وهشاشة الشاعر الذي يحاول في ديوان آخر أن يعبر النهر إلى الضفة الأخرى من دون أن يقلق راحة الغابة.
نص سعادة غير نادم، ولا حزين، بل هو عزف منفرد على آلة البيانو. خفيف ومتوثب يضع أصابعه على المفاتيح الصحيحة. يسرع أحياناً في ترتيب الصور، ومرات أخرى يبقي على إيقاع واحد. وفي نصوص عدة، يستعيد مفرداته الأثيرة التي تناولها في دواوين سابقة: الأشجار، الغابات، الطرق، الهواء، المشي، الحافة.. لكننا في هذا العمل لسنا أمام الحافة. نحن نرتمي من أعلى جبل تجربة شعرية مختمرة تفكك العالم... لنركب هواجس الشاعر و«هشاشته».