التاريخ لا يعيد نفسه... كل ما في الأمر أنّ وديع سعادة يريد لقصيدته أن تشبه زمان نشرها. الشاعر اللبناني الذي وزع باليد أول دواوينه «ليس للمساء أخوة» في العام ١٩٧٣، بعث بديوانه «من أخذ النظرة التي تركُتها عند الباب؟» عبر البريد الالكتروني في احتجاج واضح على الدور العربية وطريقة تعاملها مع الشعر. في ديوانه الجديد، قصائد متقشّفة، شفيفة، آتية من مناخات العزلة والهروب الوجودي. لهذا، فإنّها قصيدة لا تستسيغ الأغلفة الأنيقة والصفحات الفخمة... رسالة الكترونية تكفي. كأنّ قصيدة وديع سعادة ترتاح في العراء، ليتلقى القارئ حمولتها الشعورية من دون أيّ تكلّف.

الشاعر الذي أسس مع عباس بيضون وبول شاوول وآخرين لحظة افتراق صادمة عن جيل مجلة «شعر»، معلناً معهما زمن الحداثة الثانية في قصيدة النثر، بقي أميناً لعالمه الشعري، رغم تنويعات تجريبية عدّة أدخلها على أسلوبه الكتابي في ديوانه الجديد. عالمه الشعري ذاك ينحاز إلى أسئلة الفرد المُهمَل، والمتروك لمجهول المصائر، والحائر بكينونة لا يجد لها جدوىً. وضع سعادة ذاته موضوعاً لهذه الأسئلة، في سياق شعري لسرد التباساتها بين العدم والوجود.

لم يتوقّف صاحب «مقعد راكب غادر الباص» منذ ديوانه الأول عن نبش الذات والتقاط شذراتها النفسية من مفردات الطبيعة تارة، وتفاصيل الواقع اليومي طوراً... لكنّه في كلتا الحالتين، كان يسعى إلى التقاط الوهم كمادة خام لبناء قصيدة تراهن على التلميح. الحياة الحقيقية عند سعادة ليست الذات، بل الوهم الذي نتخيله عن هذه الذات. في هذه المسافة، تتمدد قصيدته، وتحاول أن تجد حيزها الجمالي. مسافةٌ تصلح لبناء الكثير من العوالم الذاتية.
في كتابه الجديد «من أخذ النظرة التي تركُتها عند الباب»، لا نلحظ تحوّلاً مفصلياً في تجربة الشاعر اللبناني الذي غادر بلاده عام 1988، واستقرّ في المهجر الاسترالي. ثمّة إصرار على تيمات الموت والغياب، اليأس والعبث، العزلة والتأمل. كعادته، يختبئ سعادة وراء صيغ مختلفة من أدوات المخاطبة، ليخفي ذاته المنهكة، ويكون أكثر حرية في شرح تعثّراتها. يقوم بذلك عبر لغة درامية يرسم صورها بمشهدية عالية، وحساسية مدهشة. يقول في قصيدة بعنوان «بالكاد تتسع لعين شخص ولهاثه»: «أقفل الباب وقعد/ مشيحاً بوجهه عن خيالات ناس/ تعبر أمام بيته/ عن خيالات عصافير/ تدقُّ على نافذته/ ماذا سيطعم العصافير وإلى أين سيدعو الناس؟/ إن أراد عصفور قمحاً من أين يأتي به؟/ وإن دخل ناس/ أين يجلسون؟/ غرفة صغيرة ومقفلة/ بالكاد تتسع لعين شخص/ ولهاثه».
ينوّع صاحب «نص الغياب» في تقنياته الكتابية بين السرد المقتصد والتقاط المفارقة واستحضار شخوص لا ملامح لها. تتوالى قصائد مثل «عرفتُ كيف يحنُّ الغصن»، «مكان الورقة». يعرف الشاعر جيداً كيف يُدخل الأفكار إلى بنية نصّه، بخبث فنيّ عالٍ من دون أن يؤثّر ذلك على شعرية النص. إلا أنّ هذه التقنيات المستخدمة لا تقولب فوران الطاقة الشعرية لدى سعادة، بل تخدم تفردها. غاية السرد مثلاً ليس أن يتصاعد ليقدم دهشة ما، إنّما لتحريك الدلالة وتوليد المعنى بشكل مستمر ومتماسك، ما يجعل القارئ حائراً أمام متاهة من التأويلات العميقة التي يتيحها النص. «رصف حجراً فوق حجر تاركاً فراغاً/ كي تتنفَّس الأحجار/ في الحجر روحٌ، قال/ وقد تكون بين حجر وحجر/ عشبة تريد أن تنبت./ نظر إلى الشجرة وقال/ قد تكون روحٌ في المسافة بينه وبين الشجرة/ والنظرة قد تعيقها/ فأغمض عينيه./ مشى/ عائداً/ وقال/ في الإسفلت روحٌ أيضاً/ رفع قدمه عن الإسفلت/ وبقي في مكانه».
كأن ابن شبطين (شمال لبنان) يستحضر الكلمات من ذاكرته التي كوّنها هناك. تمتلئ عباراته بمفردات الطبيعة وأمكنتها العذبة. مفردات يقوم الشاعر بعد وضعها في تراكيب وصيغ، بشحنها بدلالات غريبة عنها. فإذا بالورقة اليابسة تصبح لساناً، والماء لحماً، ويصير للغصون دمٌ. يحدث ذلك في مناخ واحد، يتقن صانعه كيفية استخراج المعاني من سياقاته الكتابية، وإعادة إخفائها ببراعة. هذا ما يبرِّر حضور الغنائية في نص سعادة، وخفوتها في الوقت ذاته، داخل أسلوب يمهد غالباً للمعنى ولا يفصح عنه. لا تبدو جملته ذات نبرة إيقاعية عالية، بل ذات انسجام أسلوبي يختزن المعنى ويحرّكه ببراعة. يقول «وفي بحار نظراتهم وُلدت أسماك غريبة/ وصنَّارات/ رموها/ واصطادوا عيونهم». وفي مكان آخر «رأى وجهه في النهر/ وظنَّ نفسه ماءً».
يقطف سعادة المشاهد والاستعارات والصور من عوالم شتى، مدخلاً عبثه الفلسفي في التفاصيل الصغيرة. يخلّف وراءه قصائد تمتلئ بالأسئلة الوجودية الشائكة. ولعلّ حضور بسام حجار وسركون بولص في إحدى تلك القصائد كان أكثر اقتطافات سعادة قرباً من عاطفته. «أعطني رداءك يا سركون/ بردتُ/ أَدفئني قليلاً بترابك/ وأَنعشْ هذا التراب يا بسَّام/ ادلقْ عليه/ كأسك».