صرخ في وجه يوسف إدريس: «أنا أعظم كاتب قصة في مصر». ردّ إدريس: «أنت مجنون»، وقال لفتحي غانم: «أنت تعيش في الظلّ، وأنا في الهجير». في بداية الستينيات، حين التقى محمد حافظ رجب للمرة الأولى إبراهيم أصلان، الذي سيصبح صديق عمره، وكان بصحبة الروائي ضياء الشرقاوي، سألهما: «هل ما زلتما تكتبان القصص الواقعية بتاعتكم دي؟». ابتسم الشرقاوي وقال: «نعم»، فبادره قائلاً: «دا احنا ابتكرنا مدرسة جديدة في القصّة، ودلوقتي قاعدين فوق، وعمالين نطرطر عليكم». إنه محمد حافظ رجب، صاحب التأثير البارز في جيل الستينيات المصري، و«الضلع الثاني لمثلث القصة القصيرة المصرية، بين يوسف إدريس ومحمد المخزنجي»، بحسب الروائي إبراهيم عبد المجيد.
هو «المخرّب الأعظم» بحسب النقاد... بائع اللبّ والسوداني في الإسكندريّة، أصبح «فتّاح سكك» في القاهرة. أطلق صرخته الشهيرة، «نحن جيل بلا أساتذة»، فزرع الفوضى في الوسط الثقافي آنذاك. نصوصه متمردة، تمارس فعل الاحتجاج على المستويين الجمالي والفكري. نصوص سريالية، وعوالم مُفتّتة، أبطالها بشر بلا أسماء، يسكنون علب السجائر، أو يمتلكون قوىً خارقة، أو رؤوساً تتحوّل إلى كرات قدم. الغربة هي البطلة المطلقة في عالم رجب الثري والمتشعب. «أنا رجل تكتنفني الغربة في كل مكان»، كما يقول. أبطاله بشر عاديون، على هامش الحياة. «العابرون، والمزروعون في المحطة، وباعة الصحف، وماسحو الأحذية، والغرسونات، وأصحاب المحالّ، والعمال الشيوعيون».
أربكت كتابته واقعاً ثقافياً هامداً، وجلبت لصاحبها اتهامات كثيرة: كتابة غير مفهومة، وكتابة حشاشين، أو «سريالية في هذا العالم الواقعي جداً»، كما قال الراحل نجيب محفوظ، لكنّ كثيرين يلمّحون إلى استفادة صاحب «نوبل» نفسه مما كتب رجب. «ما كان محفوظ ليكتب «ثرثرة فوق النيل» من دون أن يقرأ ويستفيد من قصصي»، يؤكدّ القاص.
يقيم رجب في بيته السكندري الذي عاد إليه في أوائل السبعينيات، بعدما عارك القاهرة وعاركته 16 عاماً. بيته صغير في مبنى قديم على ترعة النوبارية، بعيداً عن مركز المدينة. هناك يقيم مع ابنته وحفيدتيه. رجب دائم الابتسام، لكنّه لا يحكي كثيراً. يصغي إلى الأسئلة، ويجيب بكلمات قليلة، ثمّ يغيب طويلاً، كأنّه يناجي كائنات غير مرئية. نسأله عن أسباب توقفه عن الكتابة لسنوات، يرفع إصبعه إلى السماء، ثمّ يسكت طويلاً، قبل أن يحكي عن «قوّة خفية» تجبره على الصمت!
في محطة الرمل في الإسكندرية، بجوار «سينما استراند»، بدأت رحلة الطفل محمد، وحيداً بعدما رحل أشقاؤه العشرة، «من الجوع ربما»، كما يقول. والده، بائع اللب في المحطة، لقّبه الباعة الآخرون بـ«المعلّم». فقد كان الأنشط والأكثر مكسباً، والأكثر خسارة في الوقت ذاته. انجذب الطفل إلى المجلات والكتب التي كان يبيعها أصدقاء الوالد. تنقل بين مدارس عدة لتعلُّم القراءة والكتابة، وعمل في الوقت ذاته في بيع اللب والسوداني. كانت القراءة عالمه الخاص الذي يبعده عن الواقع، وربما وسيلته للبحث عن استقرار نفسي لم يجده. «طلّق أبي أمي وتزوج أخرى، ورحنا أنا وهي نتنقّل بين بيوت العائلة، إلى أن تزوجت هي أيضاً». لم يكن أمامه سوى العودة إلى بيت الأب، الذي اشترط عليه الاكتفاء بالدراسة الابتدائية. «عندما قال لي ذلك، أحسست أنني أريد أن أصرخ أو أبكي أو أجري كالمخبول، أريد أن تطول يداي لأحتضن البشر وأحكي لهم حكايات طويلة محمّلة بالعذاب والأسى. بدأ كل من حولي من الباعة يقولون عنّي «مجنون»». ظل يكتب ويكتب ويكتب... يستعير من صبحي بائع الهريسة الأوراق البيضاء. يسودها، ويقرأها له... وكان صبحي نفسه يكتب الزجل، وصبي المصور المجاور يكتب القصة والشعر، وبائع المثلجات في محل «على كيفك» يكتب الأغنية، وخادم الفندق القريب يكتب الشعر. أنشأوا معاً «رابطة الكتاب الشبان في الإسكندرية».
في ذلك الحين، لم تكن تربطه بالقاهرة أي علاقة، سوى طابع بريد، يضعه فوق قصصه، ويرسلها إلى مجلات مختلفة. إلى أن جاء يوم، فوجئ فيه بباكورته «الجلباب» منشورةً في مجلة «القصة»: «أحسست يومها أني أكاد أرى ضوءاً بعيداً، ينير الطريق إلى شارع النجاح». في الأيام الأولى لـ«ثورة يوليو»، زار وزير الداخلية في حينه جمال عبد الناصر الإسكندرية. قاطعت معظم التيارات السياسية الزيارة، وحضر الشيوعيون والإخوان المسلمون اللقاء، مطالبين بعودة العسكر إلى الثكن. وسط هذا الجوّ العدائي، أراد رجب فعل شيء ما. راح يمرّ على الجبهتين صائحاً: «هؤلاء رجال ثورة حقيقية، وعلينا الوقوف إلى جانبهم». وحين توجه عبد الناصر إلى سيارته، مدّ محمد يديه لمصافحته، وامتدّت بعده عشرات الأيدي. نشرت مجلة «آخر ساعة» صورة المصافحة تحت عنوان «الشباب يعاهدون». كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي تتصدر فيها صورته غلاف إحدى المجلات.
لكن الثورة لم تنهِ معاناة رجب. بدأت الشرطة في مطاردة الباعة. اشتغل غرسوناً، ثم في مصنع حلويات، فبائع كتب في المحطة، ثم في مقهى وهكذا... «ظلت الشرطة تطاردني، والحياة تزداد عبوساً». في عام 1956، بعث برسالة إلى لطفي الخولي: «لم أعد قادراً على المكوث في هذه القهوة (...) أبيع اللب وأوراق اليانصيب. أنا جائع محروم. أولادي جياع يصرخون. وما أقسى صرخات الأبناء في آذان الآباء». وجاءه الرد وظيفةً في «المجلس الأعلى للثقافة والفنون» مع يوسف السباعي. في القاهرة بدأ رحلة أخرى. فاز بجوائز نادي القصة، وانفتحت له صفحات الجرائد. في تلك الفترة، اتفق مع خمسة من الكتاب الشباب على إصدار مجموعة قصصية مشتركة. تحمّس للفكرة يحيى حقّي، وأعطاها عنوان «عيش وملح». وفي مقدّمتها، كتب صاحب «قنديل أم هشام» كلمته الساطعة: «غيّر محمد حافظ رجب شكل القصة القصيرة ومضمونها، كأنّه يسبق زمانه بثلاثين سنة».
لكنّ المدينة الكبيرة، لم تفتح له أحضانها. اكتشف أنّه «غريب إلى حد القهر». يحكي عن تلك الأيّام كأنّه يعيشها الآن: «كان الناس غرباء معنا، وكانت هناك ثورة، ودخل كل الكتّاب في مصر طابور العرض السريع. أدركنا أننا جيل بلا أساتذة. (...) حتى إنّ الناس أخذهم الكابوس، فتركونا نعوي في الساحة وحدنا. ولأنّنا كنا فتياناً، وحصيلتنا طيبة، فقد بدأ التمرد داخلنا طفلاً سرعان ما أدركته الرجولة». جاءت صرخته ضد السلطتين الثقافية والسياسية احتجاجاً ـــــ كما يقول ـــــ على وجود الملايين في الصف: «ركبت الأجيال السابقة الموجة، ولم تتح لغيرها فرصة الوجود». بعد صرخة الغضب والقطيعة تلك، لم يهنأ يوماً. فُصل من عمله، وعاد إليه، ثمّ فُصل منه، وهكذا... حتى قرّر ترك العاصمة، والعودة إلى مدينته عام 1972على نحو نهائي، موظفاً في المتحف الروماني. توقّف عن الكتابة أكثر من عشرين عاماً، دخل خلالها المستشفى أكثر من مرّة. لم يكتب خلال تلك الفترة، لكنّه نشر قصصه القديمة في مجموعة حملت عنوان «مخلوقات براد الشاي المغلي». وعندما عاود الكتابة لم يجد من يسأل عنه. كأنّ صمته كان مريحاً للجميع.



5 تواريخ

1935
ولد في الإسكندرية

1968
أصدر مجموعتين قصصيتين «غرباء» و«الكرة ورأس الرجل»

1992
أصدر مجموعته القصصية « اشتعال الرأس الميت» بعد صمت دام عشرين عاماً

2006
حصل على جائزة التميز التي يمنحها «اتحاد الكتاب المصريين»

2011
صدرت أعماله الكاملة في مجلدين عن «دار العين»