تنصرف لغة سوزان عليوان (1974) إلى الداخل، تتفقد الأحشاء المعطوبة. برقة تربت على كتف ألمها، وتدعوه إلى القصيدة. ما نقرأه في نص الشاعرة اللبنانية يتعدى حرفة الشكل ليخوض عراكاً أسلوبياً عنيفاً مع المعنى. صاحبة « كائن اسمه الحب» لا تقتنع بسهولة بما تقوله قصيدتها. تريد لهذا القول أن يناور ويعبث ويغامر.هذا الضجر من المعنى، يجعل العلاقة مركبة بين سوزان وقصيدتها. صاحبة «كراكيب الكلام» التي تنجز في الشكل بناء متماسكاً مدهشاً، تفتح المضمون على احتمالات شتى. المعاني ترتطم ببعضها داخل القصيدة الواحدة، لا سيما أنّ عليوان تنحاز في نصوصها إلى نسج المناخات وتنظيم أجزائها وليس إلى إيصال معنى محدد ضمن تصعيد شعري مألوف. ثمة عبوة جمالية ومعرفية تحت كل جملة، لا تنفجر في وجه القارئ مباشرة، لكن شظاياها تترك أثراً في مخيلته.
في هذا السياق يأتي ديوانها الجديد «رشق الغزال» (إصدار خاص). القصائد المكتوبة بعذوبة وانسيابية لا توضح هذه المرة معالم القول الشعري. صاحبة «مصباح كفيف» تريد هنا التقاط المعنى من آلام وأسئلة من دون خدش هذا المعنى بالوضوح المباشر. العذوبة عند عليوان تنسحب على المضمون كما على الشكل. تقول في قصيدة «لملاقاة الأيائل»: «في قفار أعدو/ أنشد نبعاً/ لا تأسره حفرة/ نشيداً أرحب من ثقوب النايات/ لو تقرِّب القطبين/ ألفة أفق/ لو أنّ الحياة/ تفاحة تحاورنا/ في المعاناة/ نواة معنى/ كل مصباح/ يتخطى صاحبيه/ وللرياح العاتية/ بصيرة صقر/ وملمس سماء». في قصائد أخرى، تبقى صاحبة «مخبأ الملائكة» حريصة على تدوير ما تريد قوله داخل قصيدتها القصيرة نسبياً، لكنها تسعى هنا إلى التخفيف من بعثرة هذا القول وضبطه في تركيب أسلوبي يعتمد الفكرة أساساً لانسجامه أكثر مما يعتمد المناخ. نقرأ في قصيدة «كل ما أحببتُ كسرني»: «لأشباح أشكو/ لشمس شتاء في شباك/ لغراب يراقص غصنا غائماً/ لبقعة قلبي على قميصي/ لرجل ثلج ونادل ومجهول عبر الأسلاك/ لهمهمة فيروز/ لتذكرتك المهدورة/ لرفاق الحفل والحانة/ لغيابك الذي/ في غيابك/ صار صديقي».
تمتلك علوان حساسية كتابية خاصة لا تسمح لها بترك مفردة زائدة في قصيدتها. الحذف عند سوزان ليس تقنية أسلوبية هدفها تنظيف النص من ثرثرته فقط. الشاعرة تنحت جملتها مفردةً مفردةً، تطرد الكلمات التي لا تناسب إيقاعها الداخلي خارج النص. تقول في قصيدة «لستُ التراب»: « كي أنتشي بعودة الجسد/ وليست الروح من حجر/ لأنحتها/ وأحرر حصاناً/ إلى صهيله/ داخل الصخرة العملاقة/ أصغي/ العاشق أناء فارغ/ أعِدني/ و لا تعِدني/ ليس الشروق على عاتقنا/ وللربيع أزهار هشة/ على مهلها تهوي/ ومهارات إله/ لنا أعمار/ كأقواس قزح/ قصيرة/ يسبقها ويليها الطوفان». كأن الحذف في قصائد الكتاب يرتبط بحذف جواني اختار التحرر من زوائد العالم والانكفاء إلى الذات لقراءتها ببطء وتأنٍّ. «واجب الشاعر أن يقدم النص من غير زوائد» تقول سوزان لـ«الأخبار» قبل أن تضيف: «أعمل في قصيدتي على إيصال المعنى كما يراد له أن يصل تماماً. المعنى يجب أن يكون واسعاً عميقاً وليس فضفاضاً».
لم تتخلَّ صاحبة «لا أشبه أحداً» عن هذه القسوة في التعامل مع القصيدة وضبطها في حمولات شعورية مكثفة حين استخدمت اليومي والعابر، وطرحت العلاقة مع الحبيب في بعض قصائدها، تقول في «الضباب وبرد ديسمبر»: «وعلبة ثقاب في جيبي/ وقصيدة في البال/ عنيدة عصية/ على مصطبة نائية/ قبل أن ألقاك بدقائق/ والأطفال/ وأكياس الأعياد/ في المحطة القديمة الفاحمة/ حيث الجرذان حمام لا يطير/ القطارات تشطر الهواء/ والمشاهد/ أوتار في إسمنت/ القضبان الهاربة/ العابرون عابرون/ وعلي كالعادة أن أعتني/ بمساحة وقت لا تقاس/ بمفردي/ ...». لا مكان هنا للتفاصيل المملة التي تستفيض في الثرثرة، سيما أنّ عليوان تنحاز إلى القصيدة المعرفية التي تعالج المواضيع من زاوية عميقة وشديدة الخصوصية، بعيداً عن التسطيح. تشرح الشاعرة رؤيتها لليومي وكيفية تناوله في القصيدة «حين نقرأ القصيدة اليومية في الغرب نجدها مختلفة عن القصيدة التي تكتب عندنا. هذه النوعية من القصائد لا تعني الذهاب إلى التسطيح، اليومي تفصيل عابر يفتح على معان كونية ووجودية، وإلا تحول إلى خواطر ومذكرات».
تقول سوزان عليوان: «لا اعرف إذا كان نصي يستطيع ترميم أعطاب وجودية نعاني منها. الركام الهائل حولنا يحتاج إلى أشياء كثيرة للتخلص منه. ننام على جثث ونستيقظ على جثث. الثورات العربية وضعتنا أمام أعطابنا. اكتشفنا هول العدو الداخلي. لا أعرف أين سنكون عام 2012 أو 2013».



الواقع

بمطارقه المتلاحقة على عظامي
أنحني حتّى أصبح حضني
وحين أرفع رقبتي قليلاً
لأتفقَّد الفراغ وما فاتني
أجد الهلال الذي تركتُه يتكوَّن
مشنقةً مكتملة
كم بكيتُ
كي يشيخ اسمي
كساعٍ مسترسلٍ على درّاجة
هي برهة
وهْم الوقت الذي يمرّ
هكذا أهلكني الهجر
وما هالني
أنّنا انتهينا ألف مرّة وأكثر
دون أن أنسى
في مرّة
اسمك
من ديوان «رشق الغزال»