عزيزتي رشا،يومَ سأَلتِني، لبضع سنوات خَلَتْ، أن أصِلك ببعض المراجع المختصَّة بحرْف الهمزة، ألهمتْني الحاسَّةُ السادسة أَنك تُعدِّين شيئاً ما في موضوع الحرْف الأوَّل من حروف الهجاء. ثم سكتِّ عن ذلك زمناً؛ إلى أن فاجأتِ قرَّاءك، وأنا منهم، بـ «كتاب الهمزة» (دار الجديد). فشكرتُه لك، ثم أوغلتُ فيه، فوجدتُه طريفاً في بابه، إذ بدا لي أن الهمزة، عندك، قد تكون رمزاً لحوَّاء التي تردَّتْ بحرفها، هذا، في ختام اسمها ـــــ وأيّ اسم هو! ـــــ لكي تسْتر بعضَ عرْيها؛ كأن للهمزة، هنا، حرْمةَ غشاوةٍ ليست لورقة التين...

وإلى ذلك شعرتُ بأنّ همزتك الحوائيَّة هي من سلالة النشاط والالتزام، كأنها هبَّتْ تطالب بالمزيد من حقوق المرأة التي لا تزال تحتاج إلى من يعضدها أسوةً بقاسم أمين في مصر وبجرجي نقولا باز «نصير المرأة» في لبنان، إذ كرَّسا عليها أغلب الجهد في خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين؛ فأدَّيا، في هذا القصد، ما آمنا بأنه رسالةُ حقٍّ وصواب تعزيزاً للمرأة في بيئة ليست كلّها في جانب الأُمّ والزوجة والشقيقة والبنت ـــــ ولا ننسى الجَدَّة والحفيدة ـــــ ومَن إليهن وعنهنّ مِن أهل الكرامة والعطاء.
ثم كان «كتاب الهمزة». فنفذتْ سهامُه من الحرْف شكلاً إلى روحِ المضمون أصلاً، حتى ربما ساغ القول بأنه لولاك، ولولا نخبة من نظيراتك لما قدِّر للهمزة ـــــ وهي، تكراراً، رمزٌ للمرأة ـــــ مَن يعزِّزها في مجتمعنا اللبنانيِّ عامَّةً، والبيروتيِّ خاصَّةً، فضلاً عن المجتمعات المحجَّبة في وجه الإجمال. ذلك مع الإشارة إلى أن حقوق المرأة، في معظم المشارق والمغارب، هي على اطِّرادِ صعود برغم بعض المعوِّقات.
وربما تبدَّى لي، وأنا أُغازل الهمزة في وحدةِ تعدُّدها قطعاً فوصلاً وفصلاً، أنها صنوةُ حواء بعُرْيها وستْرها، كما تقدَّم لي قوله. لكأنَّ بالهمزة أنوثةً حوائيّةَ الظمأِ إلى ذكورةِ آدم فيستطعم الزوجان الأوَّلان طيِّباتِ تفَّاحةِ الحيَّة التي أرَّختْ المعصيةَ الأُمّ، أو خطيئةَ المعرفة كما تحبّين التسمية. وهكذا فإن المعرفة ليست في عصمة من الخطأ الذي هو، كالخطيئة، في طبيعة الإنسان مخلوقاً على صورة الإله ومثاله.
وإلى ما سَلَف يضاف أنك، في كتابك، أبَيتِ أن تدَعي الهمزة وحدها، فاخترتِ لها رفيقاً يقترن بها، فكان بَدْرُ، قمَرُ حياتها، الطالبَ النجيبَ، الجدِّيَّ، العنيد. وكانت الهمزةُ عروسَه الزئبقيَّةَ، الشابَّة برغم مئاتِ السنين، عمْرِ اللغة العربيَّة التي أفشت أسرارَها للزوج الحبيب، كأنَّ هذا القران هو، أيضاً، من الأسرار المصُوْنة في أبجديَّات الأديان والمذاهب.
ولستُ أدري كيف تبيَّنَ لي، وأنا في حضنِ الهمزة، أنها رمزٌ لشخصك ولنصِّك، وخصوصاً في كتابك هذا. فرشا الأمير، بعفويَّةِ جسارتها، وثوريَّةِ مَواقفها، وطرافةِ قلمها، ذاتٌ حادَّةٌ كهمزة القطْع، ناعمةٌ كهمزةِ الوصْل، حاسمةٌ كهمزة الفصْل، كأنما رشا هي مَجمَعُ الهمزة في ثلاثيَّةِ كيانها الناطق بالألغاز وفقاً لمَنْطقِ الرموز أحوالاً وأشكالاً في حقيقةِ ماهيَّةٍ وحقِّ وجود.
حسْبُ الهمزة فخراً أنها، إذا قُيِّضَ لها مَن يعرف كيف يقاربها، تسمو بأوفى مَعانيها إلى مستوى الكلمة حرفاً وروحاً في أبجديَّةِ الأُمم، على اختلافِ ألسنةِ الشعوب وعوالمِ الحضارات.
عزيزتي رشا،
تحيَّة القدْر والتمنِّي لعملك في سبيل الهمزة.
(لندن، خريف ٢٠١١)
* صحافي وكاتب لبناني



تثور الهمزة على الألف، وتصير حبيبة بدر ابن العاشرة. عبر الأساطير وأدوار الطرب، تروي رشا الأمير في «كتاب الهمزة» قصّة أول الحروف. تعاونت صاحبة «يوم الدين» على إنجاز كتابها هذا مع الرسامة دانيال قطار، التي أعطت الهمزة وجهاً وقامةً، ومع الخطاط علي عاصي، الذي خطّ حروف الكتاب بتقنية عالية. كتيّب مفيد يختصر تاريخ الهمزة وأصول كتابتها.