خطّ سكّة الحديد الذي يفصل بين حي بولاق الدكرور الشعبي وحي المهندسين الراقي، هو الذي دفع ابن الحي الفقير، إلى طرح سؤال زلزل وجدانه البكر: «شعب في السماء وشعب تحت الأرض. ليه يا ربي؟» لم يعثر على إجابة. أسئلة ومتناقضات كثيرة كبُرت مع الطفل صلاح عبد الله من دون إجابة: «الأب موظف ملتزم ومشغول، والأم مهمومة بتربية أشقائي، وغير متفرغة للرد على أسئلتي المزعجة. إحنا في إيه ولا إيه يا صلاح؟». المصادفة البحت قادت قدميه إلى مسارح وسط القاهرة وسينماتها. هناك، وجد كل الإجابات «كنت شغوفاً بالسينما. الأفلام راحت تجيب عن أسئلتي». توقف الصبي عن طرح الأسئلة، وبدأ يسخر من الواقع الصعب، عبر تأليف مونولوج ساخر، أو تحوير قصة درامية لتطابق شخوص الناس في بولاق الدكرور: «ألّفت وأنا عيّل مونولوجاً أعجبني، وأديته في الأفراح الشعبية فأعجب الناس». في فيلم «الفرح» (2009)، أدى المونولوج نفسه: «ياما نفسي ألبس مريلة، وأفوت أيام البهدلة، وأرجع تاني المدرسة، بهدوم واسعة مهلهلة».
موهبة التمثيل ورثها عن الخال: «كان صديقي. كان أداؤه المسرحي يأسرني. أخذت عنه التلقائية في الحديث مع الناس». لكن التأثير الأوضح في شخصية عبد الله كان من نصيب القراءة «قرأت القصص القصيرة، وكتب المسرح، واستهواني أرسين لوبين، وأغاتا كريستي، وعباس العقاد، وطه حسين، ونجيب محفوظ».
يعترف الشاعر المغمور بأنّه قصّر في حق موهبته تلك: «تكاسلت. قلّ مجهودي، فتركني الشعر. لم أبادله الحب، فذهب إلى أناس أكثر تميزاً». مع إلحاح الكثيرين عليه لطباعة قصائده في ديوان، يرفض بحسم معلّلاً «عندما أحنّ إلى الشعر، أعزّي نفسي بأشعار صلاح جاهين، وبيرم التونسي، وأحمد فؤاد نجم». كتب صلاح عبد الله الشعر الحر في مرحلة المراهقة، خصوصاً الشعر السياسي الذي شغل تسعين في المئة من تفكيره ونتاجه: «تحيا مصر بجد خالص/ لأن حياتها حياتنا./ تحيا مصر وتحيا/ في كل ناحية،/ وكله قال تحيا مصر/ في المصانع، في المزارع، في الجبال./ بس احنا نسيبها تحيا،/ وهي تحيا وتبقى عال». يحبّ دوماً ترديد هذه الأبيات من قصيدته الأولى «تحيا مصر».
بقي هذا الناشط السياسي مهموماً بالقضية الوطنية حتى اليوم. وهو أفلت متعمّداً من التصنيف السياسي: «كنت على مسافة واحدة من كل التيارات السياسية. بعضهم كان يعتبرني شيوعياً، وآخرون يرونني ناصرياً. لم أكن هذا ولا ذاك، لكنني كنت أميل إلى أصدقائي اليساريين. وهم دفعوني في نادي بولاق الدكرور إلى تكوين فرقة للمسرح سمّيناها فرقة «تحالف قوى الشعب العامل». وقدمنا عدداً من المسرحيات لكبار الكتاب المصريين والأجانب. بعدها انتخبت أميناً لحي بولاق والدقي في منظمة الشباب. لكن سريعاً انتهت علاقتي بالسياسة في نهايات حقبة السادات واتجهت إلى المسرح».
«آه من ذاك البلد، لما الفقير فيها اغتنى، أصبح فقير» عبارة مفضلة يقولها صلاح عبد الله قبل أن يخوض في السياسة والثورة التي يراها حدثاً خيالياً و«زلزالاً كبيراً لا يوصف. أنا متفائل بمستقبل الثورة. وأتمنى ألّا يفقد الناس إيمانهم بالشارع». ورغم إيمانه بالثورة، لا يحبّ «أن يعكسها في الفن الآن. يجب أن تنضج وتظهر كل توابع الثورة حتى تعسكها الدراما. لو حشرنا الثورة الآن في أي عمل فني، فسوف يحسم منها ويسيء إليها. ولا أحب أيضاً تصنيف الفنانين سياسياً، لأننا في هذه الحالة سوف نفقد فنانين عظماء».
الشبه بينه وبين الفنان نجيب الريحاني (1889 ـــ 1949) لا يقف عند عشقهما للمسرح الكوميدي، أو تلاقيهما في موهبة الارتجال. بل إنّ الساخر الراحل لا يفارق بال صلاح عبد الله. يقول إن أصدقاءه الذين يعدّونه خليفة الريحاني يحرّضونه على تجسيد شخصية هذا المبدع الفذّ، لكنه يرفض: «أخاف تجسيد الشخصيات المعروفة. عندما جسدت الشيخ إمام تملّكني خوف شديد».
الرجل الذي يعشق خشبة المسرح وقف أمام الكاميرا في أكثر من 125 عملاً بين السينما والدراما. وطوال مشواره التمثيلي (ثلاثون عاماً) لم تفارقه صدمة البداية «هيبة الكاميرا تخيفني إلى الآن، خصوصاً أول يوم تصوير وأول مشهد». وقد حقّق صلاح عبد الله نجاحاً حقيقياً من خلال دور الشيخ إمام في فيلم الفاجومي (2011). لكنّه يحنّ إلى دور آخر طبع مساره، بإدارة المخرج داود عبد السيد «مخرج عبقري قدّم لي أجمل أدوار حياتي، في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي». هذا العمل حالة فنية لا تفارقني. ومن أجل داود فقط، قمت بدور شرفي قصير في فيلم «رسائل البحر» وأنا لا أفعلها مع أحد. وعندما يُطلب مني دور قصير، أعتذر لكنّ داود عبد السيد حالة خاصة، وخاصة جداً».
ابن الخشبة يأسف لكون المسرح الجاد تراجعت مكانته لصالح العروض التجاريّة التي تقدم «وجبات خفيفة قبل النوم». ولا يخفي كونه مشتاقاً للعودة إلى التمثيل على خشبة المسرح. لكنه لا يدري إذا كان باب المسرح ما زال مفتوحاً له، أم إذا كان سيبقى دونه كالشعر: «لديّ أوقات تصوير كثيرة. وإذا عرض عليّ عمل كبير، أشارك. جمهور المسرح كالابن البكر، علاوته مضاعفة».
التكريم في رأي صلاح عبد الله أهم مردود نفسي يخرج به الفنان من أي عمل. وهو حاز جوائز عدة، منها أفضل ممثل دور أول في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» من «جمعية الفيلم» عام 2001، إضافة إلى جوائز أخرى: «لا أتذكر عدد الجوائز. لكن لا جائزة أهم من جائزة الجمهور الذي احتشد أمام «مستشفى دار الفؤاد» العام الماضي للاطمئنان إليّ عندما أصبت بجلطة. اشتدت مناعتي، وتركت السرير سريعاً، واستكملت باقي مشاهدي في مسلسل «الحارة»».
رغم المسلسلات التلفزيونية القليلة التي قدمها صلاح عبد الله، وأبرزها دوره في مسلسل «سنبل بعد المليون»، مثّل العام 1992 مفترقاً في مسيرته الفنية. يومها، قدم دور الصعيدي الساخر في مسلسل «ذئاب الجبل»، ثم مرت سنوات طويلة، شارك بعدها في مسلسل «الملك فاروق» (2007) مجسداً دور الزعيم الوفدي مصطفى النحاس باشا. وهو الدور الذي أقلقه: «أنا ضد تقديم الشخصيات التاريخية في أعمال فنية. ولولا أنّ كاتبة المسلسل لميس جابر أقنعتني بالدور، لما أقدمت على هذه المقامرة التي تحولت تجربة ممتعة وناجحة».
لا يهتم صلاح بالبطولة المنفردة، وإن كان ينتظرها. ولا يزاحم أحداً على أي عمل فني «تجاوزت المئات ممن هم أفضل مني فنياً. والحمد لله أشعر بأني تحققت فنياً. هناك زملاء موهوبون رافقوني، ولم يحالفهم الحظ». صلاح عبد الله الذي يثق بأنّ القادم يحمل له مفاجآت فنية، ينتظر مفاجأة بحجم دوره في فيلمي «مواطن ومخبر وحرامي» و«فيلم هندي» اللذين يراهما أهم أدوار حياته في السينما التي يراها بحاجة إلى وقفة حاسمة: «كنت في حاجة إلى الانتشار سينمائياً، لكنني أدقق الآن في ما يعرض عليّ... لا، لن أكرّر نفسي حتى لو أطبقت السماء على الأرض».



5 تواريخ


1955
الولادة في حي بولاق أبو العلا، القاهرة

1980
التحق بفرقة «استوديو 80» التي أطلقها الفنان محمد صبحي والمؤلف لينين الرملي، ما وضعه نهائيّاً على سكّة التمثيل

1987
شارك مع محمد صبحي وجميل راتب في مسلسل «سنبل بعد المليون» (إخراج أحمد بدر الدين)

2001
فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» (داود عبد السيّد)

2011
استئناف تصوير دوره في فيلم «المصلحة»، وتعاقده على بطولة مسلسل «زيّ الورد» الذي تدور أحداثه قبل عام من الثورة