«سأجلس وحيداً كأني على موعدٍ مع إحدى نساء الخيال»، بهذه العبارة المقتبسة عن محمود درويش، يفتتح الروائي السوري ممدوح عزّام (1950) روايته الجديدة «نساء الخيال» (دار أطلس ـــــ بيروت). لكن النص سيذهب إلى مناطق سردية أبعد، في استعادة حقبتي الخمسينيات والستينيات في سوريا، كأن الزمن العذب توقف هناك، ثم جثمت صخرة ثقيلة على الأرواح. ليست «نساء الخيال» رواية حب إذاً، بل سيرة جيل وجد نفسه على تخوم مرحلة جديدة، عتبتها صعود حزب البعث إلى السلطة، وأفول تطلعات هذا الجيل إلى أفق أرحب.
أثناء دراستهم في دار المعلمين، يقرر أربعة أصدقاء في لحظة طيش تأليف عصابة تحت اسم «الكف الأسود»، مهمتها كتابة رسائل حب تحوي قصائد من الشعر العربي القديم، وتوزيعها سرّاً في باحة المدرسة، ما يستدعي استنفار الجهات الأمنية لمعرفة من يقف وراء هذه المنشورات السريّة. هكذا تتناسل أزمنة وذكريات ومواقف عبر مدوّنة لا تستقر على حال، تبعاً لتعدد الرواة في وصف الوقائع.
أحد أعضاء العصابة القديمة يُنقل تعسفيّاً من التعليم إلى الأرشيف في نوع من التطهير للجهاز التعليمي.
في ذلك السرداب الرطب والمهمل والمعتم، كان على الراوي أن يقوم بمهمة تصنيف الوثائق، وإتلاف المواد الأرشيفية المستهلكة. هذه العقوبة المسلكية ستنفتح على كنز غير متوقع. بينما كان يفتش عن بعض الوثائق والملفات المكدّسة، تنهار رزمة المحفوظات بفوضى، فتقع عيناه على ملف ضخم مكتوب على سطحه «الأرشيف السرّي لعصابة الكف الأسود»، وسيبرز بين عشرات الأسماء التي خضعت حينذاك للتحقيق اسم «ليلى السومري» الحب الأول والأخير للراوي. لكن خلال نبشه في الملف، سيكتشف حقائق أخرى عمّا كان يعرفه عنها، فهي كانت ملهمة آخرين، رغم أنها الوحيدة التي لم تصلها رسالة من العصابة، أثناء وجودها كطالبة في دار المعلمين.
ينسج صاحب «قصر المطر» نصه بخيوط متعددة ومتشابكة. وكلما حاول فك عقدة في هذه السجادة، تتكشف عن سرّ ما، أو لغز جديد. فخاخ كثيرة صادفته في حياته المضطربة. الحياة التي أراد تدوينها على نحوٍ آخر، ليس من موقع السيرة الذاتية، بقدر ما هي سيرة الجنوب السوري في عزلته وطقوسه وأحلامه المتكسرة. نحن حيال مسوّدة أولى مكتوبة قبل عقدين من استعادتها مجدداً في ضوء حيثيات أخرى طرأت على حيوات شخوصها. ههنا ينسف الراوي تصوراته الأولية لنصه في حفريات جديدة، وخبرات مختلفة؛ فالكوميديا التي أرخت بظلالها على تلك المسوّدة، تنحو في نسختها الجديدة إلى تراجيديا تاريخية محمولة على شهادات الشخوص أنفسهم، فكان على الراوي أن يمحو ويضيف لترميم الأعطاب وتقليب تربة الحكاية على نحوٍ آخر، لا تعوزه الاعترافات أو الشجاعة.
ليلى السومري مغناطيس الحكايات التي ستتفرع منها جداريات توثق تاريخ مدينة السويداء بشوارعها وسينماتها ومكتباتها وأسرارها، قبل أن تفقد هويتها تحت عنف التهجين ورائحة العفونة التي بدأت تهبّ بتأثير «العقل العسكري»، أو خاصية الافتراس والمقايضة والخنوع، وفقاً لشهادة طعمة الله شمس الدين صاحب أول مكتبة في المدينة. الشغف القديم للراوي بالكتب يقوده مجدداً إلى هذا المكتبي المحتضر، بحثاً عن أسرار تلك الحقبة العاصفة، وخصوصاً ما يتعلّق بليلى التي كانت تتردد حينذاك على المكتبة. سيضيء طعمة الله مناطق معتمة في الحكاية، سواء كوقائع دامغة، أو هذيانات مكتبي معتوه، وهو ما يضع الراوي أمام مفترق سردي، وحيرة في تدوين نصه. الحقائق الدامغة ستبقى غائبة، وتنطوي على ألغاز يصعب التأكد من صلابتها وقوتها. على الأرجح، إن التشظي الذي طاول أحوال الشخصيات ومساراتها، ينطوي على زئبقية التاريخ السوري نفسه، هذا التاريخ المكتوب بروح أمنية، تكفلت بدمغ مصائر البشر وتطلعاتهم وأحلامهم المجهضة. لذلك، لن نجد حقيقة نهائية، خارج ما تحتويه الملفات السريّة والتقارير والمكائد من جهة، وابتكار فكرة الحنين إلى حقبة الخمسينيات كحلم مشتهى من جهة ثانية.
يقول الراوي: «صارت الخمسينيات زمناً طللياً؛ لأن ما نعيشه الآن ليس سوى أكاذيب». نحن بحاجة إذاً، إلى تفنيد الأكذوبة، وإحصاء الخسائر، وطي صفحة الأمنيات الضائعة. لا يتوانى ممدوح عزّام عن إماطة اللثام عن ذلك التاريخ المزوّر، بمفردات خشنة، ونبرة ساخطة، وشتائم شوارعية أحياناً، بما فيه غراميات تلك الحقبة التي تكشّفت هي الأخرى عن وهم، أقرب ما يكون إلى المنام. الخيانة أطاحت مصائر الأصدقاء الأربعة، في محصلة لزمن «الوشاية»، هذه الرافعة الثقيلة التي أوصلت بعضهم إلى كراسٍ وثيرة، وأطاحت بعضهم الآخر. بموازاة هذه الوقائع والتحولات، يُخضع صاحب «جهات الجنوب» لغته الروائية لاختبارات محتدمة، تستدعي مرادفات كثيرة بسبب غياب اليقين، والحيرة في كتابة ذلك النص المشتهى، أو الكلمة الأخيرة فيه، فهو يثقله بالهوامش والاستدراكات والظنون كإجابة عن سؤال مؤجل: لماذا لم تتسلم ليلى السومري رسالة الحب القديمة؟