باريس | تشهد الصالات الفرنسية إنزالاً ثورياً عربياً، من خلال ثلاثة أفلام تتناول جوانب من الثورتين المصرية والتونسية، هي: «18 يوماً» المصري (عمل جماعي) و«علمانية، إن شاء الله!» للتونسية ناديا الفاني، و «لا خوف بعد اليوم»، باكورة مواطنها مراد بن شيخ.

يجمع هذه الأعمال سعيها إلى توثيق الثورة. لكن كل واحد اعتمد مقاربة أسلوبية مغايرة. العمل الجماعي المصري اختار الأسلوب الروائي لتناول الثورة في قالب «التخييل المضاهي للواقع» الذي يحمل بصمات تأثيرية واضحة من «الواقعية الجديدة» الإيرانية، لكنه يندرج ضمن «الواقعية الاجتماعية» الراسخة في السينما المصرية، من صلاح أبو سيف إلى يوسف شاهين. أما الفيلمان التونسيان، فينتميان إلى السينما التوثيقية. فيما اختار مراد بن شيخ القالب التسجيلي الكلاسيكي عبر رسم 3 بورتريهات اجتماعية متقاطعة، تزاوج بين الانشغالات الذاتية والهم العام، فضّلت الفاني المقاربة النضالية عبر عمل تسجيلي أقل كلاسيكية (وحيادية؟)؛ إذ ظهرت حاملة الميكروفون لمحاورة شخوصها، على طريقة الأميركي المشاكس مايكل مور.
صُوِّر العمل الجماعي المصري خلال الأيام الـ 18 التي هزت عرش النظام السابق (من 25 ك2/ يناير إلى 11 شباط / فبراير)، وعكست فقراته (عشرة أفلام قصيرة تبلغ مدة كل واحد منها 12 دقيقة) مخاض «ثورة النيل». لكن مخرجي تلك الأفلام اختاروا التخييل بدلاً من التوثيق. لم ترتكز كاميراتهم على الحدث الرئيسي، المتمثل في اعتصامات ميدان التحرير، بل تناولت 10 قصص إنسانية تدور وقائعها على هامش الثورة.


رصد شريف عرفة التحولات التي هزت المجتمع المصري في قالب رمزي من خلال ردود فعل نزلاء مصحّ عقلي، أثناء متابعتهم الثورة على التلفزيون. بينما اختار مروان حامد وأحمد علاء رصد الواقع. صوّر الأول وقائع تعذيب شاب من ثوار ميدان التحرير شديد الشبه بالناشط وائل غنيم، بينما روى الثاني تضحيات أحد شهداء الثورة البسطاء، وهو الحلاق «أشرف سبيرتو» الذي حوَّل دكانه المجاور لميدان التحرير إلى غرفة إسعاف. من جهته، اختار محمد علي الكوميديا الساخرة لتصوير بعض الظواهر الوصولية التي رافقت الثورة، من خلال قصة شبان حاولوا استغلال التظاهرات لتحقيق المكاسب عبر بيع الأعلام المصرية للثوار، وصور «الريِّس» لأنصار النظام السابق ! أما يسري نصر الله ـــ المايسترو في هذا المشروع الجماعي ــــ فأضاء على التمزق القاسي بين زوجة شابة تريد الانخراط في الثورة، وزوجها الذي يحاول ثنيها عن ذلك، خوفاً عليها من البلطجية. وقد اختار أحمد عبد الله تيمة مشابهة عبر قصة شاب يؤيد الثورة، لكنّه يتابعها عبر الإنترنت، بينما تنخرط جارته الشابة في التظاهرات.


ورغم أنّ كل قصص الفيلم خيالية، إلا أن كل واحدة تعكس جانباً من الثورة، مقدّمةً صورة أكثر صدقية من أي عمل تسجيلي. واللافت أنّ العمل حمل تأثيرات «الواقعية الجديدة» في السينما الإيرانية. «خلقة ربنا» لكاملة أبو ذكرى مثلاً يذكِّر في بنيته الإخراجية بفيلم «10» لعباس كياروستامي.
أما الفيلمان التونسيان، فاعتمد كل منهما أسلوب التوثيق الكلاسيكي لتناول «ثورة الياسيمن» في قالب تسجيلي. رصد مراد بن شيخ في «لا خوف بعد اليوم»، التحوّلات السياسية والاجتماعية التي أفرزت الثورة. وجاء ذلك عبر بوتريهات متقاطعة لـ 3 شخصيات أدت أدواراً متفاوتة خلال الثورة: راضية نصراوي، كارم الشريف، والمدونة لينا بن مهني.
سعى الفيلم إلى استكشاف التحولات العميقة التي اجتاحت المجتمع التونسي بفعل سقوط «حاجز الخوف». ولم يكتف بن شيخ بتتبع نشاطات «أبطاله» الثلاثة، وعلاقات التجاذب والتنافر التي ربطتهم بمختلف مكوّنات المعارضة أثناء الثورة وبعدها، بل أقام أيضاً لعبة مرايا على الصعيد الذاتي بين تلك الشخصيات ورفقاء دربها. الناشطة الحقوقية راضية نصراوي هي زوجة الزعيم التاريخي لحزب العمال الشيوعي التونسي حمة الهمامي. أما الإعلامي كارم الشريف، المعروف هو الآخر بتوجهاته اليسارية، فمرتبط بالشاعرة شيماء عيسى ذات الانتماء الإسلامي النهضوي.


تلك التجاذبات التي يشهدها المجتمع التونسي، انعكست في فيلم الفاني، سواء لجهة مضمونه أو عبر ردود الفعل المتشنجة التي حاولت منعه (الأخبار، 4 تموز/ يوليو 2011). وقد اضطرت صاحبة «أولاد لينين» إلى تعديل عنوان الفيلم ليصبح «علمانية، إن شاء الله» بسبب القراءة الحرفية التي وجدت في عنوانه الأصلي المستوحى من مقولة باكونين الشهيرة «لا رب ولا سيد» ، تطاولاً على المعتقدات الدينية. ورغم الهجمة الأصولية التي تعرض لها، إلا أنّ فيلم الفاني لا يحمل أي مضمون صادم للدين. يبرز الشريط كيف سارت القوى اليسارية والجمعيات النسائية، جنباً إلى جنب مع القوى المحافظة والإسلامية خلال المسيرات المطالبة بالحرية ... ولا شك في أن الفاني لم تكن لتتصوّر أن عملها سيتعرّض، بعد أقل من ستة أشهر على قيام الثورة، لهجمة مكارثية لم يعتدها موطن الشابي حتى في خلال أحلك مراحل الاستبداد في عهد طاغية قرطاج المخلوع!