خلاف أزلي اعتدنا على سماع جزء منه كل عام تدور رحاه بين مخرجي الدراما السورية من جهة، وكتّابها من جهة ثانية. عند نهاية كل موسم، تخرج مشكلة واحدة على الأقل إلى العلن. هكذا، بعد رمضان 2015 مباشرة، أطلّت الكاتبة عنود الخالد عبر صفحتها على فايسبوك لتعلن حادثة محزنة تمثّلت في تغيير جذري لمصير «نازك العابد» بطلة مسلسلها «حرائر» (إخراج باسل الخطيب).
وكتبت: «أحبّ أن أخبركم بأنّ الحلقة الأخيرة كانت مكتوبة لنعرف ما قامت به نازك العابد بعدما توّجها الملك فيصل برتبة نقيب شرف في الجيش السوري، وهي المرأة الأولى التي تحصل على شرف كهذا عام 1920. ثمّ خرجت نازك إلى ميسلون لتقيم مستشفى ميدانياً تعالج فيه الجنود المقاتلين الذين وقفوا في وجه المستعمر الفرنسي». وتابعت الخالد معتذرة من روح المناضلة السورية التي لعبت دورها الممثلة الشابة لمى الحكيم. ووجّهت اعتذاراً آخر للمشاهدين بسبب عدم قدرتها على إيصال رسالتها وخواتيم شخصياتها التي استبدلت بقصة «سخيفة» على حد وصفها. بعدها، لم تشأ كاتبة «طالع الفضة» أن تفتح الباب لمماحكات صحافية عندما خرج باسل الخطيب على صفحات جريدة «البناء» اللبنانية ليبرر تغيير النهاية قائلاً: «كان فيصل أوّل الفارين من الشام بعد سقوط ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، ولم يكن بوارد منح أيّ أوسمة وقتذاك. ثم إنّه، وبغضّ النظر عن الواقعة التاريخية، ليس مقبولاً اليوم، بالنسبة إلينا كسوريين، أن نختم مسلسلاً يتحدّث عن تحرّر نساء الشام وتنوّرهن، بمشهد لملك حجازيّ معروف باتصالاته السرّية مع اليهود (اتفاقية فيصل ــ وايزمان)، وموافقته على إعطاء فلسطين لليهود، يمنح فيه وساماً لمناضلة سورية كنازك العابد التي ربما لو قدّر لها أن تحيا من جديد، فستتنازل عن هذا الوسام الذي لم ولن تكون بحاجة إليه كشهادة حُسن سلوك ووطنية!».
«الأخبار» توجهت إلى كتّاب مكرّسين لسماع وجهات نظرهم إزاء ما يطرأ على حكاياتهم ورؤاهم بعدما يعيد المخرجون صياغتها بلغة الصورة؟ تقول عنود الخالد في حديثها معنا: «أنا مع الاختلاف في الرأي، من دون تحويل الأمر إلى نزاع فوضوي، وقناعتي أنّه لا يمكن لشخص أن يدّعي الوصول للمعرفة التامة أو أنّ رأيه هو الصحيح. لكنّني واثقة ممّا كُتب في نصي وقد بحثت عنه لسنتين متواصلتين».

تدّعي ريم حنّا أنّها أوّل
من تدخّل في العقد لصالح
أصحاب النصوص
هذا عن المشكلة التي حصلت أخيراً في «حرائر»، لكن كيف ترى الخالد الحل في ما تتعرض له النصوص من تدخلات تصل إلى درجة الإساءة والتغيير الجذري لما يريد الكاتب إيصاله؟ «قد تنتهي هذه الإشكالية عندما يعطى الكاتب حقوقه المادية والمعنوية، ويطلع على النتائج أوّلاً بأوّل. علينا أن نعي أنّ خيال الكاتب أكبر من أي حالة إنتاجية، ويفترض أن يكون له قرار في اختيار الممثلين ومواقع التصوير. نحن لا نسلب المخرج حقوقه، لكن يجب ضمان حقوقنا أوّلاً»، تقول الكاتبة السورية مضيفةً: «في زمن الأزمة، أشعر أنّ الكاتب صار مطية يُطلب ليكتب وينهي نصاً خلال شهرين مثلاً، ثم يطلب ليعدّل وغالباً ما يتقاضى أجراً أقل من زملائه في العمل، عدا عن اشتراط المنتج تفصيل الأدوار حسب الممثلين. المشكلة أنّ هناك من تعلم كيف يقسم الصفحة إلى قسمين أحدهما للسيناريو والآخر للحوار، فظن نفسه كاتباً. لا أريد أن يُفهم من كلامي الادّعاء، فأنا ما زلت حتى الآن في طور التجريب لخدمة بلد أعشقه وأعتبره منجماً للأفكار».
من جانبها، تدّعي الكاتبة ريم حنّا أنّها أوّل من تدخّل في العقد لصالح الكاتب. تقول: «عموماً، العقود مجحفة جداً بحق الكتّاب، وغالباً ما تأتي لصالح المنتج، لذا أدخلت بنداً يتعلّق بوجوب التشاور مع الكاتب في حال الاضطرار للتعديل. في هذه الحالة، يكون هناك تواطؤ مشترك على النص، وبالتالي عندما يجرّب الكاتب الدفاع عن نجاح العمل، فإنّه يدافع عن جميع العناصر، كما يكون شريكاً في المسؤولية تجاه العمل سواء نجح أم فشل. وهذا لمصلحة العمل وليس ضدّه». من جهة ثانية، تلفت كاتبة مسلسل «24 قيراط» (إخراج الليث حجو) إلى أنّه ربما أصعب ما يمكن للمخرج أن يسمعه من الكاتب أنّ «ما قدّمته ليس هو ما قصدته في حكايتي». وتوضح حنّا: «تاريخياً كان نجاح أي عمل يُنسب للمخرج، وكنت من أوائل من قال عفواً أيّها المخرج ما تدّعيه وتنسبه لنفسك هو في الأصل أفكار الكاتب». هنا، تذكّر الكاتبة السورية بإضراب كتّاب أميركيين سابقاً على خلفية هذا الموضوع: «ولك أن تتخيّل الدراما بدون كتّاب. ذات مرّة وبشكل انفعالي قلت على الملأ اذهبوا إلى جريدة وأخرجوها طالما أنّ الكاتب ليس موجوداً في لاوعيكم».
أما بخصوص التغييرات التي تطرأ على النص، فتعتقد كاتبة «رسائل الحب والحرب» (إخراج باسل الخطيب) أنّ «التغيير يبدأ عندما يختار المخرج «لوكيشن» غير مطابق لمواصفات النص، وهنا بالضرورة ستتغيّر العلاقات بما فيها الحالة البصرية التي بنى الكاتب روايته انطلاقاً منها وحسبما تخيلها. وحتماً عندما يتغيّر المكان، تتبدّد كل الدلالات التي أرادها صاحب النص. فالكتابة ليست حورات فقط إنّما إيماءات وحالة بصرية وبنية عامة تُسبك بانسجام».
رغم أنّه يشترط حضوره أثناء تصوير العمل من حيث توزيع الأدوار وغير ذلك، إلا أنّ للكاتب سامر رضوان رأياً حاسماً في إشكالية الكتّاب والمخرجين. يقول لنا: «أعبّر عن حزني على الخيال الروائي وحبسه ضمن شريط مصوّر، لكن مقتضى الحال يفرض هذا وقد دخلنا فيه. إذا كان التصوير إذلالاً للقيمة الروائية في حال تسلّمه مخرج سينمائي بار، فما بالك إذا تصدّى لسجن هذا الخيال عنصر تلفزيون بائس؟». ويتابع كاتب «الولادة من الخاصرة»: «عندما تخلق عالماً حكائياً وتشكّله وفق تصوّر صارم في ذهنك، تكون مرحلة الرضى عن النفس في أقصاها، ثم تبدأ المشكلة حين تكتب ما تخيّلته. هناك نقصان كبير سيلحق بما تصورت، وتزداد المشكلة تعقيداً وإحباطاً عندما يبدأ معمل الإنتاج دورته ويحوّل ما تخيلته إلى صورة. حينها، تشعر أنّ ما أنجز أقل مما كتبت، وما كتبته أقل مما تخيّلت». ويخلص رضوان إلى أنّ «الكارثة الكبرى بعد هذا التدرّج في القلة والانحدار أن يأتي ربع عقل ليصوّر نصف رواية، وتكتمل فصول الخيانة إذا كان المخرج الذي يتصدّى لعملك يرضى بالتنازلات والانحناءات، ومريضاً بوهم العارف أكثر منك، أو معتاداً على عبارة «حاضر سيدي». والسيّد في هذه المعمعة هو المنتج الذي يطلب، فيستجاب. بالتالي، يصبح المخرج محاسب صورة لا صانعها، وتغدو التسوية جزءاً من عمله. أما النتيجة النهائية لهذه القباحة المتفق عليها، فهي أن يحقق صاحب رأس المال كلفة إنتاجية شحيحة، فيما يضمن المخرج فرصة عمل في الموسم المقبل. ولا ضير إذا حدث هذا على جثة ما بناه الكاتب وتخيّله». من هنا، يعتبر كاتب «لعنة الطين» أنّه «ربما يحق للكاتب أن يصرخ رغم إدراكه أنّ الصراخ لم يعد نافعاً، لأنّ من يتابعه لا يمتلك روايته الأصلية، وسيحاكمه انطلاقاً مما شاهد». لكن الأسوأ بحسب رضوان أن يأتي مخرج «يضمر كاتباً قزماً في داخله، فيتصوّر أنّه أقدر منك على صناعة الأحداث أو الشخصيات أو نهاية الحكاية. فيقرّر تحويل هذا القزم إلى عملاق على حسابك، وتكون النتيجة شبيهة بالحقيقة التي يمثلها مسخه بالمضمر والمعلن». لكن أين التشارك في صناعة المسلسل؟ يرد رضوان بأنّ هذا كلّه يغيب «لحظة الاتفاق على أنّ الرواية عمل فردي، وعليها أن تتحوّل الآن إلى فعل جماعي. للكاتب رأيه وللمخرج رؤيته وللممثل الحق في تضمين روحه وخبرته. تتحقق في هذا الاتفاق شروط بداية النجاح. والنجاح لا يتساوى لأنّ هذه مسألة لا يمتلك أي منّا قرار الفصل فيها». من هنا، يخلص رضوان إلى أنّ الشراكة ينبغي أن تكون «هدف اللقاء بين مخرج وكاتب وممثل وفني». أخيراً، نسمع آراء قاسية من السيناريست المعروف نجيب نصير في ما يخص هذه القضية، لكنه يفضّل تأجيل الحديث فيها إعلامياً حتى يتمكن من توجيه ملاحظاته إلى آخر مخرج «عجز عن حمل حكايتي، فراح يعيث بها فساداً!».